تحدث التربية في العادة نتيجة ممارسات مقصودة أو ممارسات عفوية من خلال تفاعل الأفراد القائمين عليها مع المستهدفين بها في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع ، إلا أن هناك نوع من التربية له من التأثير على سلوكيات المتلقين ما يفوق أحيانًا تأثيرات التربية الموجهة والمقصودة والنظامية وغالبًا ما يستتر هذا النوع من التربية في وسائل الإعلام ووسائل التعلم المفتوح والألعاب ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة،
وأعني به ” التربية المستترة ” والتي لم يتم تناولها في الأدبيات التربوية بشكل يجلي مفاهيمها وأساليبها وحجم تأثيرها بشكل يساعد الباحثين في الشؤون التربوية على التعريف بها على النحو الذي عرفت به “المناهج الخفية “، ولعلي في هذه المقالة أميط اللثام عن مفهومها من وجهة نظري المتواضعة وعلاقتها بالمناهج الخفية وحجم تأثيرها في المجتمع .
فالتربية الخفية أو المستترة هي “مجموعة المفاهيم والعمليات العقلية والاتجاهات والقيم والسلوكيات التي يكتسبها الأفراد بالاقتداء والتفاعل من خلال وسائط التربية المتنوعة بطرق غير مقصودة أو مخططة ” بينما تعرف المناهج الخفية بأنها ” مجموعة المؤثرات في اكتساب الطلاب الاتجاهات والقيم من خلال التفاعل مع المجتمع المدرسي والأنشطة غير المخططة والمقصودة داخل المدرسة مما لا تستهدفه المناهج المقررة ” فالتربية الخفية والمناهج الخفية مؤثرات مهمة في تكوين الشخصية قد تفوق تأثير المقصود والمخطط منها، وهي تحدث بشكل دائم للأفراد ويتزايد تأثيرها فيهم بتزايد مصادرها المتنوعة.
فالمنهج الخفي معني بالكثير من النواتج التربوية الإيجابية منها مثل: اكتساب القيم الدينية، والأخلاقية، والاجتماعية الإيجابية أو السلبية منها مثل اكتساب السلوكيات العدوانية والكذب، والتحايل، والكراهية ؛ ويؤكد العديد من التربويين على أن تأثير المنهج الخفي قد يزيد عن تأثير المنهج المقرر، ومنهم على سبيل المثال عالم التربية جوردن الذي يرى :”بأن المنهج المستتر ذو فعالية وتأثير أقوى في تشكيل التلاميذ من المنهج المخطط، ذلك أنه يلعب دوراً في تربية التلاميذ دينياً، واجتماعياً، وسياسياً» وتكمن خطورة المنهج الخفي وسلبياته في إبراز الصراع لدى الطلاب بين ما يتلقونه من خلال المنهج المقرر وما يتلقونه مخالفًا ومغايرًا له في الحياة اليومية من خلال التفاعل مع المجمع المدرسي والمجتمع العام وهو ما يشكل خبراتهم ويبني شخصياتهم أحيانًا بما لم يخطط له في النظام التربوي المقصود.
وقد تزيد تأثيرات التربية المستترة على تأثيرات المناهج الخفية لتنوع مصادرها المؤثرة في البيت والمجتمع وفي وسائل الإعلام والاتصال والتواصل ، ويمثل ما يكتسبه الأفراد من خلالها تحديًا حقيقيًا لتغيير القيم والثقافات والاتجاهات الخاصة والعامة لدى المجتمعات والأمم، ومن الصعوبة اليوم التحكم في مخرجات هذا النوع من التربية لامتداد أفق تأثيرها بامتداد التطورات المذهلة في مصادرها من التقنيات والاتصالات والإعلام المفتوح، كما أنه من الصعوبة ضبط المناهج الخفية والتحكم فيها، ويمكن للقائمين على التربية والتعليم الحد من أثارها السلبية وذلك بتكوين الوعي بأهمية التعامل الإنساني مع الطلاب وممارسته عمليا داخل البيئة المدرسية، وتوجيه الطلاب دائما بشكل مباشر وغير مباشر للأفضل فكرياً واجتماعياً وسلوكياً, والاستجابة لرغباتهم وحاجاتهم الإيجابية, وذلك من خلال بيئة مدرسية ديموقراطية متطورة ومعلمة ومن خلال تخطيط وبناء مناهج ذات صلة وثيقة بالواقع الذي يعيشونه وتأهيل وتدريب المعلمين والإداريين ليكونوا قدوات إيجابية مؤثرة.
وتقع على الوالدين والقائمين على التربية مسؤولية إكساب الناشئة القيم والاتجاهات الإيجابية وتحصينهم من الآثار السلبية لمخرجات التربية المستترة في مصادر التربية المتنوعة، وتعويدهم على تقويم مكتسباتهم المتنوعة منها من خلال عرضها على محك القيم والاتجاهات الإيجابية التي اكتسبوها من الوالدين والنظم التعليمية والثقافة المجتمعية ، وسيواجه الناشئة في الجيل المعاصر والأجيال المستقبلة العديد من التأثيرات السلبية من التربية المستترة والمناهج الخفية وعلى المعنيين والمسؤولين في الحكومات والمجتمعات والدول العمل على التقليل من آثارها السلبية بتوعية الناشئة وتدريبهم على رفض سلبياتها والحصانة منها.
وأرجو أن يكون في هذه المقالة مفاتيح علم تحفز الباحثين التربويين على البحث في موضوع التربية المستترة أو الخفية وتحليل مضامينها المؤثرة في تشكيل القيم والاتجاهات والثقافة العامة لدى الأجيال المعاصرة والمستقبلة وأن تتناول أساليب الحد من آثارها السلبية على الفرد والمجتمع وتوجيه الأنظمة التربوية والتعليمية إلى الإفادة من المخرجات الإيجابية للتربية المستترة والتصدي للمخرجات السلبية من خلال التخطيط والتطوير المستمر للبرامج التربوية والتعليمية المقصودة بما يتلاءم مع خصائص المجتمع وخصائص العصر وبما يؤكد على المحافظة على الهوية الثقافية والقيم السوية والاتجاهات الإيجابية تجاه الكون والحياة وتجاه الآخرين ويشيع ثقافة الوسطية ويكافح التطرف والانحلال والتبعية وستظل البرامج التربوية المنظمة في حاجة ماسة إلى التطوير والتحديث كلما تنوعت مصادر التربية المستترة واتسعت دائرة تأثيرها في الأفراد والمجتمعات، والله الموفق.