الحزبيون والمتحزبيون !!
بين دعاة الحزبية ، ومدعي الحزبية ، حرب خفية منذ مطلع التاريخ الحزبي ، ذلك أن من تملك مقاليد الأمور في غالب زمن الأحزاب كان من الحزبيين أنفسهم ، مما دعا الفرقاء في الانتماءات الأخرى إلى ادعاء الحزبية قناعة منهم بأن لا مقارعة للخصوم إلا من خلال لبس لباسهم ، والتخفي في داخل تشكيلاتهم ، والدعوة بألسنتهم، واستخدام أساليبهم ، وبهذا تختلط الأمور عند المتلقين فلا يميزون الصاحب من العدو ولا يعرفون النافع من الضار ولا يفصلون بين الحق والباطل ، وفي هذه المرحلة يقوم المتحزبيون بدس سمومهم في الفكر والقيم والقوانين وهم في مأمن من انفضاح أمورهم ، أو من اكتشافهم .
وقد مر التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام بما يشبه هذا النوع من المتمسلمين المندسين في الثوب الإسلامي ، وقد سماهم الله تبارك وتعالى بالمنافقين ، وفضح فكرهم وخططهم وأفعالهم حتى غدوا أعلامًا معروفين لكل المسلمين في العهد الأول ، مما أطفأ تأثيرهم على وحدة الصف الإسلامي في عهده الأول .
وفي العهد المعاصر ، برز منتمون إلى ما اصطلح عليه مسمى “الصحوة الإسلامية” والتي قادها في بدايات الأمر الإخوان المسلمون في بعض البلدان الإسلامية ، والبعض منهم يطلقون على أنفسهم مصطلح “الإخوانيين “والبعض الآخر يطلقون على أنفسهم مصطلح “الصحويين “، وقد أثروا تأثيرًا كبيرًا على الفكر والسياسة والاقتصاد ، وكان لهم عبر تأريخهم مؤيدون ومعارضون على امتداد العالم الإسلامي بل العالم بأسره ، والذي لا يمكن القطع به حتى الوقت الحاضر هو تمييز الصحويين من المتصحويين ، وخاصة عندما تتلمس في نوع الفكر ونوع الاستراتيجيات والآليات تنوع وتباين بين أفراد حزب الصحويين المعاصرين ، وقد يكون منهم من نحتقر عباداتنا مع عباداتهم يقرءون القرآن دون أن يتجاوز حناجرهم ، يدعون بدعوة الصحويين ونظنهم منهم وهم يعملون على تقويض دعوة خصومهم ، ومن أمثلة ذلك الكثير في مجال الدعوة والفكر والثقافة ، حيث يختلط الداعي بالمدعي والدعي بالواعي ، ويلتبس على المتلقي أي الدعوات هي اليقين أو الصواب أو النجاة.
لقد أدرك المنصرون الجدد هذا المنهج الفكري وقوته في التأثير الموجه والعكسي ، واستخدم بحذر من قبلهم في بعض البلدان الإسلامية لخلط أوراق الدعوة الإسلامية وتغيير نبرة الخطاب الإسلامي ، وقد اندس منهم بثوب الإسلام والدعوة وحتى الصحوة مجموعة منهم من الصعب تمييزهم لحذرهم الشديد ، وتنفيذهم مخططات مدروسة ، ولا يزعم أحد من الفقهيين أوالمتفيقهين بأنه قادر على تمييزهم اليوم ، فالأسلوب خفي والمنهج كذلك خفي والأدوات معدة إعدادًا جيدًا ، وقد يكون مستخدمو الأدوات من بيننا ومن جلدتنا ، وهم ماضون في تنفيذ مخططاتهم كما رسمت لهم واقتنعوا بها .
وقد أشرت إلى هذا النوع من التحولات الفكرية بهدف الهدم من خلال تلبس اللبوس في مقالة كتبتها يوم الخميس 26 جمادى الأولى 1430هـ وضمنتها كتابي “خميسيات حالمة ” وعنونتها بنفس العنوان وذلك في بدايات ظهور ما يطلق عليه اليوم “داعش” وقبل أن تتسيد جماعة الأخوان المشهد الديني والسياسي في دولة مصر الشقيقة وما آلت إليه الأمور بعد ذلك ، وقبل أن تثور ثائرة بعض الجماعات المدسوسة والمتدثرة في ثوب الإسلام في كل من تونس وليبيا وفي اليمن حتى أحالتها إلى خراب ، وقبل أن تجند إيران أجنادها في العراق والشام والخليج العربي وفي اليمن وتلبسهم الثوب الشيعي ليعملوا على هدم البنيان من الداخل بأساليب الدعوة ومحاربة الشيطان الأكبر والأصغر لتحرير مقدسات الإسلام ، لقد تنبأت بخطر هذا النوع من التفكير والمنهج المظلل للعوام والبسطاء ، وأشرت إلى بعض مفاتيح فكرهم المخادع ليحذرهم المسلمون ويتدرعوا أمام دعواتهم الكاذبة والمظللة وأن يجردونهم من أسلحتهم الكلامية والدعوية بهجرهم والبعد عن تأثيرهم ، ولا يزالون إلى اليوم ينشطون في ساحاتهم باستخدام جميع وسائل الدعاية والإعلان والإعلام ووسائل التواصل والاتصال المعاصرة والمؤثرة في غالبية المتابعين والمهرولين إليهم جهلا بهم وبأهدافهم .
وقد يصنفني بعض القراء من خلال مقالتي هذه في أي الفرق والأحزاب كما يشاء، وهو أمر محمود إذا ما استخدم فيه معيار العقل وهو حكم قد يصيب وقد يخطئ ، لكنه أمر منطقي لذي العقل الواعي والمتزن ، فعلى كل منا أن يحلل ما يتلقاه وأن يدقق في كل كلمة بل في كل حرف ، فالسم من السهل دسه في العسل وفي الكلمات كما يمكن دسه في كل الأشياء ، لكن المنطقي أن نحدد معايير الكلمة وأن نستخدم معاييرنا في تصنيف الخطابات الدعوية والثقافية والسياسية ونحوها .. ولنا أن نقبل منها ما وافق معتقداتنا أو أفكارنا أو أهواءنا أو توجهاتنا ونرفض ما عارضها .
وقد يحلل القارئ بعض محتويات هذه المقالة ويضعها في صف تأكيد وجود نظرية المؤامرات الداخلية والخارجية ، ولعلي أسأل من ينكر وجود نظرية المؤامرة واستراتيجياتها وخططها وما الدليل الذي يستند إليه لإسقاط هذه النظرية ، والعلم والعقل يؤكد وجودها فعلا في جميع حقب التاريخ ، وإلا لما نشطت الجاسوسية ، والاستخباراتية وخاصة في الحروب والمواجهات الدولية ، ولما وجدنا من العلماء من يسعى جاهدًا لتنقية العلم والتاريخ من الشبهات والدسائس .
وللتذكير فقط أقول بأن أصحاب الفكر اللبرالي ، وحتى مدعي الفكر اللبرالي ، وغيرهم من دعاة العقائد والفكر والسياسة بتنوعهم لا يمكن الجزم بأنهم كذلك ، فقد يكون من بينهم متلبسًا فكرهم وثيابهم من يحمل فكرًا آخر قد يكون صحويًا وقد يكون اشتراكيا وقد يكون علميًا أو علمانيا أو أي نوع آخر من غيره، هدفه التقويض بالأسلوب نفسه من داخل الأسلوب والتكوين المستهدف ،، ومن يعلم شيئًا يناقض ذلك فليقومني ،، والله أعلم .