(9) مستقبل أنظمة الحكم والإدارة في الوطن العزيز
مرت أنظمة الحكم والإدارة في جزيرة العرب بمراحل عبر التأريخ حيث شهدت الجزيرة العربية نشأة بعض الحضارات القديمة المزدهرة و قيام بعض الدول التي لا تزال بعض آثارها شاهدة على تفوقها وتقدمها الحضاري وقد أرسل الله إليها الرسل تباعًا وذكرت بعض قصصها في القرآن الكريم ثم ما لبثت أن إنهارت تلك الحضارات وقامت القبلية بدور القيادة والسيطرة في أنحائها إلى أن بعث الله نبيه محمد بن عبدالله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام حيث أنشأ على المنهج الرباني دولة الإسلام في جزيرة العرب وتمددت مساحة الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين والدول الإسلامية بعدهم لتشمل الكثير من بلاد المسلمين اليوم .
ومع انتقال عواصم الدول الإسلامية المتعاقبة خارج حدود جزيرة العرب تفاوت الاهتمام بأنحاء الجزيرة العربية حتى عادت وأهلها إلى سابق عهدهم قبل الإسلام للسيطرة القبلية رغم تبعية بعض أجزائها للدولة العثمانية حتى قامت الدولة السعودية الأولى التي شمل حكمها الجزيرة العربية باستثناء اليمن وبعض أجزاء الساحل الخليجي ، وتوحدت الكثير من أجزاء الجزيرة العربية في عهد الدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك عبدالعزيز آل سعود غفر الله له تحت مسمى المملكة العربية السعودية وهي الدولة التي وضعت فيها قواعد الحكم والإدارة الحديثة بالاستفادة من الخبرات والتجارب السابقة المتوارثة والمعاصرة والتي تطورت في أوربا وأمريكا وفي بعض دول أفريقيا وآسيا ، والمتتبع للتأريخ يلاحظ أن أنظمة الحكم السائدة عالميا تتنوع بين : النظام البابوي ، والنظام الإمبراطوري ، والنظام السلطاني ، والنظام الملكي المطلق ، والنظام الملكي الدستوري، و النظام الأميري ، والنظام الجماهيري ، والنظام الاشتراكي، والنظام الإتحادي ، والنظام الجمهوري ، وقد اختارت الدولة السعودية الثالثة نظام الحكم الملكي المطلق وقد وضعت بعض اللوائح والأنظمة المتنوعة الموجهة لنظام الحكم السعودي منذ عهد المؤسس الأول إلا أنه في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله أصدرت الأنظمة الأساسية للحكم التي يعمل بها إلى اليوم وتضمنت النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الوزراء ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق .
ولأن طريقة توريث الحكم في المملكة العربية السعودية تنتقل إلى الأخوة وفق معايير رسمها المؤسس الأول وتتفق عليها الأسرة الحاكمة على خلاف السائد في الأنظمة الملكية المتوارثة فقد خاض المحللون السياسيون والإجتماعيون في مستقبل الحكومة السعودية عند الإضطرار لنقل السلطة إلى الجيل الثاني من أحفاد المؤسس حتى أقدم الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله على خطوة نظامية مهمة بإنشاء هيئة البيعة السعودية عام ٢٠٠٦م، وإصدار نظامها الأساسي وذلك بهدف وضع نظام مؤسسي واضح لانتقال الحكم في المملكة، حيث شكلت الهيئة من أبناء الملك عبدالعزيز ومن يمثلهم من أبنائهم، ويتلخص عملها في اختيار ولي العهد بناء على ترشيح الملك أو اختيار من تراه الهيئة مناسباً ، وقد ضمن هذا الاتجاه بدء نقل السلطة بتعيين أول أحفاد المؤسس الأمير محمد بن نايف وليًا للعهد ، وتعيين محمد بن سلمان وليًا لولي العهد ، وبقي نظام الحكم وفق ما وضعت قواعده السابقة في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز وطورت بعض الأنظمة وفق مقتضيات الحاجة بعد ذلك وفتحت الفرصة للمشاركة المجتمعية من خلال المجالس البلدية التي أتيح في نظامها المزج بين الانتخابات والتعيينات وهي في مرحلتها الثالثة التي أتيح للمرأة فيها بالانتخاب والترشح للانتخابات ، ونظام الحكم في المملكة يجمع بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ويتيح الاستقلال الجزئي للسلطة القضائية ، ويتولى مجلس الشورى تقديم الاستشارات لمجلس الوزراء والسلطة التشريعية في الدولة وله نظامه الخاص .
ونظام الحكم في وطني اليوم لا يزال محافظًا على بناءاته التي أسس عليها مع بعض التطويرات القليلة التي حدثت نتيجة الضغوط والمطالبات الدولية والمحلية ، وتحضى الحكومة السعودية بتأييد كبير بين أفراد المجتمع لما وفرته الدولة من الأمن والاستقرار والرخاء النسبي بعيدًا عن التنافس المحموم على السلطة ، ولا يزال نظام الحكم يتحفظ على نشأة مؤسسات المجتمع المدني السياسية والحقوقية وعلى التحولات نحو الدستورية وله معاييره الخاصة للحرية والمشاركة المجتمعية في السياسة والإدارة والحكم ، وقد نشطت في الآونة الأخيرة بعض الأقلام المنادية بالإصلاح والشفافية ومكافحة الفساد وبالتطوير وإطلاق الحرية للمجتمع المدني في إتجاه الدستورية واعتماد معايير التكليف للقيادات وفق مبادئ الكفاءة والعدالة الاجتماعية والمساواة وتعميم الانتخابات والفصل بين السلطات وتعديل أنظمة الحكم والإدارة بما يتيح المشاركة الفاعلة في السلطة من خلال المجالس والنقابات المهنية المنتخبة ومؤسسات المجتمع المدني وإتاحة مساحة أكبر لحرية الرأي والتعبير من خلال وسائل الإعلام التقليدية والإليكترونية والإعلام الجديد ، ويبدو أن هذه الإقلام تزايدت مع الانفتاح غير المقيد على شبكة الإنترنت وإمكانية التعبير من خلالها بعيدًا عن الرقابة النظامية، ولاتزال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة المرخصة تحافظ على الخطوط المتاحة لحرية التعبير المقررة تحت الخطوط الحمراء الممنوع تجاوزها نظامًا ، وقد نفذ النظام بعض التطويرات بشكل تدريجي على مستوى مجلس الشورى والمجالس البلدية وإتيحت الفرصة مؤخرًا للمرأة للمشاركة في هذه المجالس بالتعيين في مجلس الشورى في دورته الخامسة وبالانتخابات في المرحلة الثالثة للمجالس البلدية ويتوقع الكثير من المتابعين تطوير المراحل التالية لإتاحة فرص أكبر لمشاركة أفراد المجتمع في المجالس وتطوير صلاحياتها بما يحقق المشاركة الفاعلة في السلطة التنفيذية وقد حققت حكومة وطني العزيز شوطًا لا بأس به في شمول التنمية بأنواعها أرجاء الوطن .
وقد نادت بعض الأقلام بالفصل بين السلطات وتأسيس مجلس تشريعي للوطن ينتخب أعضاءه من بين كفاءات الوطن وفق معايير وإجراءات محددة تضمن العدالة والشمول ويكون بديلا عن مجلس الشورى أو مضافًا إليه بصلاحيات تشريعية ورقابية ومحاسبية مطلقة ويصدر له نظام خاص ، ويتم تدريجيًا إتاحة الفرصة لتشكيل الأحزاب السياسية في معزل عن الطائفية والمذهبية والعنصرية القبلية وفق نظام ولوائح محددة تتيح لأعضائها المشاركة في السلطة التنفيذية وإدارة الحقائب الوزارية على منهج الحكومات الدستورية ، وقد تناول بعض خبراء الإدارة في الوطن العزيز ومنهم معالي الدكتور عبدالرحمن الشقاوي مؤلف كتاب ” تطوير أنظمة الحكم وجهود التنمية الإدارية في المملكة ” الحديث عن تطور أنظمة الحكم والإدارة وتضمنت كتاباتهم بعض المقترحات للتطوير المستقبلي ، إلا أن الحديث عن التوقعات المستقبلية لنظام الحكم والإدارة في وطني والصادرة عن مراكز بحثية حيادية متخصصة تكاد تكون معدومة ، وغالبية التوقعات تصدر من جهات معادية أو معارضة أو متحيزة لا يعتد بنتائج استشرافها لخبث غاياتها وإنحيازها، وفي إطار دراسة المتغيرات الدولية والأقليمية وخاصة التي حدثت في الآونة الأخيرة في بعض الدول العربية الشقيقة وأطلق عليها تسميات الثورات العربية والربيع العربي ونحوها وبدراسة توجهات الدولة التدريجية نحو الإصلاح والتطوير والتحديث في الأنظمة واللوائح الإدارية وفي ظل الضغوط الأممية نحو الإصلاح الإداري وصيانة الحقوق والاتفاقات والمواثيق الدولية يمكننا أن نستشرف المستقبل برسم مجموعة من المشاهد والسيناريوهات المحتملة الوقوع بإذن الله تعالى ومن أبرزها الآتي :
المشهد الأول : بقاء نظام الحكم والإدارة قائمًا على أسسه التي حددت في نظام الحكم ونظام مجلس الوزراء ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق ونظام هيئة البيعة مع إحداث بعض التطويرات في اعتماد المعايير وأساليب التعيين والتكليف للقيادات والتوسع التدريجي في منح المجالس البلدية مقاعد منتخبة أكثر من الجنسين وتوسيع صلاحياتها المالية والرقابية والإدارية وتطبيق الانتخابات الجزئية لتكليف أعضاء مجلس الشورى وزيادة أعداد أعضائه مع منحه صلاحيات أوسع في المجالات الرقابية والمحاسبية ومتابعة أداء الأجهزة التنفيذية ، وإتاحة الفرص لتشكيل جمعيات أهلية حقوقية وفق نظام محدد ومنهجية محددة ، وزيادة تحفظ الدولة على تشكيل الجماعات والتشكيلات غير المرخصة وتركيزها على توفير الأمن الداخلي والخارجي للوطن لمواجهة تزايد التهديدات الخارجية والداخلية الناتجة عن الخلايا الإرهابية والقوى المعادية ، وفي ظل هذا المشهد ستحدث بعض التطويرات في السياسات التعليمية والإقتصادية والتنموية الشاملة وستبذل الدولة جهودًا مضاعفة لتحصين أفراد المجتمع من التأثيرات المتزايدة عبر وسائل الإعلام الجديد ووسائل التواصل الإجتماعي الرقمية والتي ستتضمن المزيد من المطالبات والضغوط للتطوير والإصلاح الإداري .
المشهد الثاني : تطوير نظام الحكم والإدارة في إتجاه الدستورية فعليًا مع انتقال السلطة إلى الجيل الأول من أحفاد المؤسس وتطوير صياغة نظام الحكم والإدارة والأنظمة الإدارية الأخرى بما يتيح المشاركة الفعلية لأفراد المجتمع ومؤسساته المدنية في السلطة وقد يصاغ دستور شامل للأنظمة الإدارية على غرار الدساتير المعمول بها في بعض الحكومات الملكية الدستورية القائمة وعليه سيترتب التطوير والتغيير في جميع السياسات التربوية والتعليمية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية وسيشهد الوطن نشأة الأحزاب السياسية بمعاييرها العلمية بعيدًا عن المذهبية والطائفية والعصبية القبلية ، وستجد مؤسسات المجتمع المدني لها متنفسًا لمزاولة أنشطتها لخدمة المجتمع والمشاركة الفاعلة في السلطة ، كما سيتوافر لأفراد المجتمع والكفاءات المتطلعة للمشاركة في السلطة فرص الترشح للمناصب القيادية ومقاعد المجالس التشريعية والتنفيذية على مستوى الوطن والمناطق وفق معايير عادلة وشفافة ، وستغلق الأبواب أمام الأصوات المعادية والمعارضة بتوفير حرية التعبير داخليًا عبر وسائل الإعلام النظامية والأهلية وقطع الطريق على الخلايا النشطة والنائمة الساعية من الداخل والخارج لتقويض السلطة والبلبلة على الإصلاحات ، وفي ظل هذا المشهد سيستمر نشاط الدولة في مكافحة الإرهاب والتخريب من أجل توفير الأمن والاستقرار ومناخ الإصلاحات التدريجية .
المشهد الثالث : الإنشغال الكلي عن التطوير والإصلاحات في نظام الحكم والإدارة بالدفاع المتواصل عن الوطن ورد العدوان الخارجي المتوقع تزايد حدوثة وتكرار مشاهده مستقبلا لانخراط الحكومة الحالية في التدخل المباشر وغير المباشر في بعض القضايا السياسية العربية والدولية ولنشاطها الداخلي والخارجي لمكافحة الإرهاب والأطماع الخارجية واللذان وجدا لهما الدعم في بعض التوجهات والفكر الداخلي والمبررات في نوع سياسة الدولة ونوعية أنظمتها للحكم والإدارة ، ويتوقع مع هذا المشهد زيادة الحيطة والحذر من إحداث أي إصلاحات داخلية في نظام الحكم والإدارة لضمان تماسك السلطة وتوجيه اهتماماتها نحو الدفاع عن الوطن وسيستمر النظام على وضعه دون تطوير يذكر مما سيدفع إلى مزيد من المعارضة والعداء الداخلي والخارجي ونشاط وسائل الإعلام الجديد في اتجاه تشكيل المعارضة المنظمة للضغط على الحكومة لإحداث الإصلاحات المأمولة وهذا المشهد في ظن كثير من المتابعين هو ما تخطط لحدوثة بعض القوى الدولية التي ترتبط مصالحها باستمراره لإيجاد مبررات حدوث الإضطرابات الداخلية التي ستبرر للتدخل الدولي وتنفيذ الأجندات النفعية في خطط المنتفعين .
والوطنيون الغيورون على الوطن العزيز ومستقبله يتمنون قطع الطريق أمام كل الأطماع الخارجية ومبررات الإضطرابات الداخلية ويتمنون حدوث تطوير فعلي في نظام الحكم والإدارة بما يتيح فرصة المشاركة المجتمعية المنظمة من خلال مؤسسات المجتمع المدني والمجالس الوطنية في السلطة وتطبيق نظام الحكومة الملكية الدستورية أو شبه الدستورية بشكل تدريجي يضمن نجاح الإنتقال الآمن لضمان الأمن والإستقرار وشمول التنمية الوطنية ومكافحة الفساد وفق الخطط الإستراتيجية الشفافة والمعلنة ولعل المشهد الثاني من وجهة نظري المتواضعة أقرب إلى التطبيق وفقًا لقراءة التأريخ والواقع المشاهد ونشاط الحكومة المتدرج في طريق تحقيقه ، وفي كل الحالات ندعوا الله أن يحفظ لنا الدين والوطن وأن يحقق لنا الأمن والإستقرار والرخاء بعيدًا عن الإضطرابات المقلقة في ظل حكومتنا الرشيدة التي نالت ثقة الشعب عبر تاريخها المشرف . والله الموفق والمستعان .