الرئيسية / مقالات / سلسلة خميسيات حالمة (23)الحكمة في عصر المعرفة

سلسلة خميسيات حالمة (23)الحكمة في عصر المعرفة

23) الحكمة في عصر المعرفة !!

يطلق مصطلح الحكمة عادة على السديد من القول والفعل ، وقد تعني لدى بعض الفلسفيين اليقين المستخلص من التجربة ، وقد تطلق على الرأي المتفق عليه والفعل الصائب المتوافق مع العقل والمنطق ، وقد تتعدى هذه المفاهيم إلى أخرى بحسب وصف السلوك المنعوت بالحكمة.
وقد ورد ذكر الحكمة في القرآن الكريم في أكثر من موقع وبأكثر من صيغة صرفية ، يقول تبارك وتعالى في سورة البقرة : (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [269] وقد فسر المفسرون معناها بحسب السياق الذي وردت فيه في الآيات الكريمة ، فتارة تُفسر بالسنة ، وتارة بالموعظة ، وتارة بالقرآن ، وتارة بالعلم اليقين ، وقد اهتم العلماء بإيرادها في كتاباتهم وتحليلاتهم المتصلة بالعلم والعقل ، فمنهم من رأى أنها تعني النبوة ، أو الفقه في القرآن، أو المعرفة بدين الله ، أو الفقه فيه ، أو الإتباع له ، أو الخشية ، أو الورع …. ونحو ذلك . وغير المسلمين من علماء الفلسفة والمنطق يرى أنها نتاج تزاوج العقل الفاهم بالخبرة الثرية والإرادة التامة للفعل . ولا مشاحة في استخدام أي المعاني التي تتوافق مع مضمونها حيث أن العقلاء على الإطلاق يرون أن الحكمة ذروة السداد في القول والعمل . وهذا يقتضي من وجهة نظري التأكيد على توفر متطلباتها من أجل بلوغها وتحقيق غاياتها ، ولعل الباحثين في مجالها قد تفاوتوا في تحديد تلك المتطلبات إلا أنهم يكادون يجمعون على أن من أهم متطلباتها الآتي :
أولا : العقل الواعي المدرك للمعرفة اليقينية كأساس لتكوين قاعدة الحكمة .
ثانيًا : الخبرة الناتجة عن التجربة الهادفة .
ثالثًا : الإرادة لفعل المقبول عقلا ومنطقًا .
رابعًا : الرغبة الجامحة في نقل المخبور نفعًا للآخر .
وقليلون من يمتلكون متطلبات الحكمة ولذلك تمايزت العصور عبر التاريخ بمقدار وافرها من الحكماء الذين شكلوا بإذن الله ثقافة العصور التاريخية حيث بهم تعلوا شعلة العلم في عصر وتخبو جذوتها في عصر آخر بحسب نشاطهم وقدرتهم على العطاء والاستجابة للمتغيرات ، وقد قيل كل حكيم عالم وليس كل عالم حكيم ، فالحكمة تقتضي العلم أصلا ، لكن العلم درجة من درجات الحكمة وهي أدناها حيث يتلوها هرم متطلبات الحكمة المتنوعة .
وقد يقول قائل أننا في عصر ازدهار الحكمة ، فما يلاحظ من نواتج المخترعات المتنوعة إنما هو نتاج عقول حكيمة تسابقت لتشكيل ما يعرف اليوم بعصر المعرفة والتكنولوجيا المتطورة ، ولا يمكننا رفض المقولة ولا قبولها على الإطلاق ، فقد تنتسب بعض نواتج العصر إلى العلم لا إلى الحكمة . . وليس من الحكمة إنتاج قنبلة نووية هدفها الرئيس حرق الخلائق وتدمير الحضارات ، ولو استخدمت إحداها في صراع بشري لقضت على خلق الله ، وما شاهد هيروشيما ونجازاكي ببعيد ، وليس من الحكمة إطلاق العنان في الفضاء لكل آلة اتصال قد تجلب من الشر للبشرية مالا يدركه عقل حكيم متخصص ومتابع ، وليس من الحكمة إلغاء هوية الدين بحجة العولمة وتدويل الثقافة ، ونحو ذلك من نواتج عصر المعرفة .
يقول الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار ” آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد منها جميعاً : في تنسيق الواقع في ضوء المثال ، وفي إدراك العلاقات الخطية والجدلية التي تربط بين الأشياء ، وفي معرفة سنن الله تعالى في الخلق … آن الأوان للإفادة من التقدم العلمي بتشجيع أهل التخصصات ليغوصون على مفردات العلوم ، ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً ، وعلينا السعي إلى تكوين جيل جديد من الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية ، الذين يستخدمون المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضوية الشاملة “.
إن الوصف المنطقي للحكمة في عصر العولمة يتجلا في القدرة على استشراف أخطارها ومنافعها من أجل التعامل معها بما يحقق الاستفادة من إيجابياتها واتقاء سلبياتها ، فمن أهم تجليات الحكمة إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ، فالحكيم يرى الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي، فعدم تقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على مدار التاريخ ، وما دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس تافهة ، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما مرت عليه ! .
وذو الحكمة من يرى ما قبل اللحظة الراهنة، ويستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً أو نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى ، وتتقاطع، وتتصادم ، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها ، فيحذر قومه وينذرهم . وكلنا نرى القضايا بحجمها الحقيقي ، لكن بعد وقوعها أي بعد فوات الأوان، وربما بعد أن نكتوي بنارها ، وتفوتنا فرصها الذهبية ، لكن الحكيم يدركها في الوقت المناسب ، كما قال سفيان الثوري : » إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا الحكماء.
ومن هنا أقول إن من واجبات التربويين اليوم وضع المناهج العلمية للتدريب على مهارات الحكمة ، من خلال توفير متطلباتها ، فالحاجة إلى الحكماء في عصر المعرفة أشد إلحاحًا من وجودهم في عصور أخرى وذلك لما يتميز به هذا العصر من تناقضات تذهب بالألباب ، وعلينا التركيز على إيجاد جيل من الحكماء يقود البشرية إلى النجاة في الفترة القادمة ، فمؤشرات الأخطار تزداد من حولنا ، ونحتاج إلى من يعرف الفتنة حين إقبالها كما عبر عنها سفيان الثوري ،،، أدعوا الله أن يرزقنا الحكمة ، وأن يوفقنا لإكسابها لأجيالنا القادمة ، وعلينا العمل بقول المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم حيث قال فيما معناه ” الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها وهو أحق بها ” والله الموفق ،،،.

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كلمتي بمناسبة ذكرى اليوم الوطني الواحد والتسعين 1443-2021

الحمد لله الذي لا إله إلا هو المنعمِ المعطي الوهابِ ربِّ العالمين، ...