الرئيسية / مقالات / سلسلة خميسيات حالمة (25)مذهب الشك ومناهج البحث العلمي !!

سلسلة خميسيات حالمة (25)مذهب الشك ومناهج البحث العلمي !!

25) مذهب الشك ومناهج البحث العلمي !!

الشك خلاف اليقين، وهو حكم متردد يتساوى فيه طرفا الاحتمال بين اليقين والإنكار أو بين القبول والرفض وهو تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر عند المقوم ، وهو المرض العضال للعقل والمثير للتردد والحاجب للقبول والطريق المحتمل في العقيدة إلى الكفر ويُعد بيرّو  (275 ق.م.) الذي صحب الإسكندر في مسيرته إلى الهند والمنسوب إليه جماعة البيرونيين من أشهر المتشككين. ومن أتباعه في هذا المذهب كل من تيمون ، و كرنيادس (156 ق.م.).

ويقوم هذا المذهب على نظرية التردد والشك في الأشياء لعدم ثبوت حالاتها وعدم الاستسلام للرغبة والتفكير في إصدار الأحكام على السلوك لعدم ثبوت مقاصده ، وتنطلق النظرية من الاعتقاد بأننا وإن كنا نعرف ظواهر السلوكات والأشياء، فلا نستطيع أن نعرف حقيقتها الباطنة. ولما كان السلوك الواحد أو الشيء يظهر بمظاهر مختلفة لعدد من الأشخاص، فإنه من المتعذر أن نعرف الصواب في وجهات النظر. ولما كنا لا نستطيع التأكد من طبيعة السلوك ولا الأشياء ، ولا إصدار الحكم الصائب عليها، فإن الأمر يقتضي الوقوف والامتناع عن أي  حكم ، ومن ثم، فإن على المرء أن يعيش في هدوء وطمأنينة، متحرراً من الأوهام المنبثقة من الأحكام ، والامتناع عن الرغبات، من أجل التحرر من الشقاء. وفي هذا ما ينبئ بأن هذا المذهب يدعو إلى السلبية، ويحض على الهروب وعدم الاكتراث، ولا يعنيه في شيء أن يسبر غور الطبيعة، للتعرف على أسرارها. وقد يكون مذهب الشك هذا مرآة تعكس حالة القلق وعدم الاستقرار التي عرفها شعبا الإغريق والرومان، في ظل الفتوحات والنزاع على السلطة الذي ساد ما بعد الإسكندر، وفي أيام الإمبراطورية الرومانية التي عانت ظروف مماثلة.وقد وجد المتشككون في العصور المختلفة عبر التاريخ ، وكانوا رافضين قبول دعوات الأنبياء والرسالات إلى التوحيد ،  قال تعالى في سورة إبراهيم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (9، 10). وقال تعالى في سورة يونس {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (104).فالشك في أمر ما تردد بين القبول والرفض لعدم رجوح الحكم فيه لدى المقوّم فلا احتمال اليقين ثابت له لقبوله ولا احتمال إنكاره ثابت له لرفضه ، وهو خلاف الظن الذي يرجح احتمالا ً منها بدرجة لا ترقى إلى اليقين ولا إلى الإنكار التام في الجانب السيئ من الظن.

وقد ظهر مذهب الشك لدى الفلاسفة المعاصرين لأغراض متعددة لعل من أبرزها ما تبناه الفيلسوف الفرنسي “ديكارت ” كطريقة من طرق البحث عن اليقين، فالشك خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية عند ديكارت، وهو السبيل الأمثل للوصول إلى اليقين، إذ يقول: “الشك خطوة ضرورية لا بد من اتخاذها فخبرتي بالخطأ وتعرضي له منذ عهد بعيد واحتمال تجدده بفعل تلك الأحكام التي خضعت لها ولم أتبين صحتها، سواء أكانت أحكاماً فرضها الغير، من معلمين، أو مرشدين، أو من وكّل إليهم أمري، أم أحكاماً فرضها عليّ الحس أو الخيال-وتعرضها للخطأ معروف- إن كل هذا يدعوني إلى الشك” (د.نجيب بلدي، ديكارت ، ص88) ويقول أيضاً: “لقد كنا أطفالاً قبل أن نصبح رجالاً، وحيث أننا قد أصبنا أحياناً، وأخطأنا أحياناً أخرى في أحكامنا على الأشياء المعروضة لحواسنا، عندما كنا لم نصل بعد إلى تكوين عقولنا، فإن هناك ثمة أحكاماً كثيرة، تسرعنا في إصدارها على الأشياء ربما تحول دون بلوغنا الحق، وعلقت بعقولنا قبل التيقن منها، حتى أنه لم يعد هناك أمل في التخلص منها إلا إذا شرعنا مرة أخرى في حياتنا إلى وضع جميع الأشياء التي قد تنطوي على أقل قسط من الريبة موضع الشك” (راوية عبد المنعم عباس، ديكارت في الفلسفة العقلية،  دار النهضة-بيروت، طـ1،ص129).

ويختلف منهج الشك عند ديكارت عن الشك الذي كان سائداً قبل عصره، فالشك عند ديكارت هو شك مؤقت يقوم على هدم الماضي في سبيل إصلاح ما فسد منه، أو إعادة النظر فيه، في حين أن الشك عند من سبقه هو الشك المطلق كما هو عند”مونتني” وفلاسفة إيطاليا في القرن السادس عشر الميلادي نتيجة إعادة إحياء تراث اليونان وتغيير خريطة العالم. فديكارت لا يوجد عنده حقائق يقينية مسلّمة، قبل البحث والتدقيق، والتمحيص فيها، لكنه في الوقت نفسه لا ينكر وجود هذه الحقائق مطلقاً.فهو يشك في كل شيء، وبعد البحث يوصله هذا الشك إلى النفي أو إلى الإثبات، فالشك هو الأصل عنده ، وهذا المنهج الذي سلكه ديكارت كان من أُولى ثماره إثبات الذات والتي نتج عنها النظرية الديكارتية المشهورة “أنا أفكر فأنا موجود ، وقد بلغ ديكارت بمنهج الشك إلى إثبات وجود الله تبارك وتعالى .والمنهج العلمي الحديث مبني على الشكّ من خلال الفرضيات ، ففي عام 1920م  ظهرت جماعة تسمى “دائرة فيينا” من أعضائها كرت جوديل، وبرتراند راسل، ولدونج ويتجنسن، وهم يعتبرون أنفسهم منطقيين إيجابيين. قالوا بأن التجربة في ما وراء الطبيعة أمر غير معقول وأن الحكم على القيم والأخلاق عاطفي .

وذهب راسل إلى أن الحقائق لدى الإفراد هي حقائق مستقلة عنها عند الأفراد الآخرين. ويرى أن المعرفة تبنى على المعلومات المتوفرة ، وقد ثبت عنه قوله الشهير : إن مشكلة العالم هي أن الأغبياء متيقنون والأذكياء متشككون. ” .وقد اقتبست بعض طرق ومناهج البحث الحديثة هذا الأسلوب في منهجية الشك في تحليل المشكلات وفرض الفروض والسعي لإثباتها أو ردها من خلال البحث والتحليل والحكم على النتائج التي تفضي إليها عمليات البحث وإجراءاته ، وقد يكون الأمر مقبولا في الأمور العلمية الصرفة لكنه يستحيل في الأمور العقائدية الغيبية التي يقوم الدين على الإيمان بها كالإيمان بالله سبحانه وتعالى وملائكته وبالبعث والنشور وبالجنة والنار ونحوها من الأمور الغيبية التي تقوم على الأدلة النقلية والعقلية في توازن يثبت ما أثبته الله تعالى وينفي ما نفاه ولا يفضي منهج الشك فيها إلى اليقين بقدر ما يفضي إلى الهلكة والكفر .فالمسلم يوقن أن الموت ليس نهاية المطاف؛ بل بعده أمور جسام وهو على يقين أن الله يبعث من في القبور للعرض والحساب في يوم القيامة، أما غير المسلمين فإن كثيرًا منهم لا يؤمنون بالبعث والنشور، بل هم في شك من ذلك قال تعالى في سورة النمل : {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [66 – 68].وقال تعالى في سورة سبأ متوعدًا الكافرين الشاكين : ({وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [51- 54].

والمنهج الإسلامي القويم يحبذ البحث عن اليقين ولا يحبذ الشك منهجًا ولا أسلوبًا ولا غاية مقصودة ، وتقصي الحقائق والبحث يجب أن يقوم على مبدأ حسن الظن والنية الحسنة لا على الشك ، يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ” لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً” ، والنصيحة الطيبة في هذا المقام ” احمل أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقيلك عنه”. وقد تعوذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وسوء المنقلب ، نسأل الله اليقين في العلم والبحث والاعتقاد ونسأله تبارك وتعالى حسن الظن والعفو في الدنيا والآخرة ،، والله الموفق .

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كلمتي بمناسبة ذكرى اليوم الوطني الواحد والتسعين 1443-2021

الحمد لله الذي لا إله إلا هو المنعمِ المعطي الوهابِ ربِّ العالمين، ...