الرئيسية / مقالات / وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة 21

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة 21

الوقفة الواحدة والعشرون : غطاء القدر والأريل يلتقطان قناة السودان

بعد دخول الكهرباء في قريتي قرية الحكمان أقبل الأهالي على اقتناء التلفزيون الأبيض والأسود واقتناء وسائط التقاط بث التلفزيون السعودي من محطة البث الأرضي في مدينة جدة ، ونشط بيع الأريلات الأفقية والرأسية كما نشط الراغبون في التقاط بث التلفزيون في تركيب الأريلات على أسطح المنازل ، وتفاوتت قوة التقاط البث بين منزل وآخر نظرًا لجودة الأريل واتجاهه وارتفاعه عن سطح المنزل ، وأذكر أنني كنت وبعض من كان في عمري آنذاك نحاول تصفية البث إلى أعلا درجة ممكنة بابتكار طرق جديدة .
وقد حاولنا باستخدام وسائط متنوعة إضافة إلى الأريل المستخدم عادة في التقاط البث ، وقد جربت إضافة أغطية (الحلال) بكسر الحاء وهي جمع تكسير لحلة والمقصود بها قدور الطبخ المنزلي الصغيرة وهي مصنوعة من الألمنيوم ، وقد تحسن استقبال بث التلفزيون بالفعل بإدخال بعض منها ، مما شجعني وبعض الرفاق لتجريب ما هو أكفأ من غطاء الحلة، وبالفعل جربت أن استخدم غطاء قدر أكبر كقدر العزائم هكذا كنا نطلق عليه وهو قدر يبلغ قطر فوهته المتر تقريبًا تطبخ فيه الذبائح في المناسبات وفي إكرام الضيوف ، وكان عندنا منه ما صنع من النحاس وآخر مصنوع من الألمنيوم وقد جربت الغطائين من النوعين واختبار أكثر من طريقة لتثبيت الأريل فوق غطاء القدر وتوجيهه إلى أكثر من اتجاه في محاولة لالتقاط بث التلفزيون ، فجاء الصوت صارخًا من المتابع للتغيرات في استقبال البث في التلفزيون تم التقاط البث لتلفزيون السودان ولكنه يحتاج إلى تحسين وتصفية أكثر ، حركت غطاء قدر الألمنيوم المثبت بداخله الأريل بشكل أفقي قليلا على نفس الاتجاه فجاء الصوت معلنا فشل التجربة لقد فقدنا البث ، فقلت وماذا عن التلفزيون السعودي فجاءت الإجابة كما كان عليه سلفًا لا تحسن في الاستقبال ، ثم حاولت أن أغير من الطريقة ففكرت أن أجعل الأريل رأسيًا على غطاء القدر والبدء من جديد في عملية التوجيه ومتابعة حالة التقاط موجات البث ، ونجحت المحاولة في هذه المرة بالتقاط بث أكثر صفاء للتلفزيون السوداني وللتلفزيون السعودي أيضًا، وبدأت بتسجيل الملاحظات ودرجة الاتجاه الصائبة لاستقطاب البث الأرضي سواء للتلفزيون السعودي أو التلفزيون السوداني .
وفي الوقت الذي كنت أجري فيه محاولاتي المتكررة لضبط استقبال البث التلفزيوني كان بعض الزملاء فوق أسطح منازلهم يجربون طرقًا أخرى وأذكر أن من المحاولات التي جربها بعض الزملاء تركيب أكثر من أريل باتجاهات متنوعة وبأوضاع متنوعة في عمود واحد وأوصلها ببعضها البعض لتحسين التقاط إشارات البث وقد أفلح أحد الزملاء بالتقاط بث التلفزيون المصري وآخر في التقاط بث التلفزيون الأثيوبي ، ورغم أن التلفزيون بالنسبة لي لم يكن غريبًا آنذاك فقد شاهدته واستمتعت ببعض برامجه ومسلسلاته في مدينة الطائف لكن حب التجريب لالتقاط محطات تلفزيونات أخرى كان هدفًا ممتعًا ومسليا لي ولبعض أصدقائي في تلك الفترة ، ولم نكن آنذاك قد تعرفنا على الدش أو طبق الالتقاط الذي انتشر فيما بعد لالتقاط موجات البث الفضائية بواسطة الرسيفر أو منظم الاستقبال ، ولكننا كنا نحاول في استخدام ما يشابه الدش باستخدام أغطية القدور الصغيرة والكبيرة ، وبين محاولات النجاح حينًا والفشل في أحيان كثيرة كنا نقضي أوقاتا ممتعة وسعيدة في محاولة اصطياد موجات البث الأرضية للتلفزيونات الدولية .
لقد كانت الحياة رغم بساطتها وتواضعها في أحيان كثيرة ممتعة لجيلي الطامح إلى التجريب والبحث والاكتشاف ، وكانت البيئة الاجتماعية محفزًا ومشجعًا لنا مانحة لنا بعض الحرية ، وكان بين أيدينا مجالات رحبة وخصبة لتنفيذ مجموعة من النشاطات المقلدة والمبتكرة ، وكنا نفرح بأقل النتائج ولا تردنا محاولاتنا الفاشلة عن البحث عن النتائج الناجحة ، وكان الإصرار مسلكنا الذي اعتدنا عليه ، وكانت الرغبة الملحة في تحقيق النجاح تهون علينا تحمل نتائج الفشل، وتزيدنا إصرارًا وتحديًا لبلوغ أفضل النتائج ، وقد مارسنا الإصرار في مدارسنا ومنازلنا وفي مجتمعنا وأعمالنا الصغيرة والمتطورة بعد ذلك ، ولعل أكثر الجيل الذي انتميت إليه يحمل تلك المشاعر وذلك الإصرار على النجاح ، فمنهم من بلغ منزلة عالية في الوظيفة أو في الأعمال الحرة ، وحقق كل منهم مجدًا متفردًا يشار إليه بالبنان ، ولعل لأساليب حياتنا وحريتنا التي أطلق لنا الوالدين والمجتمع جزءًا منها للتجريب كانت أحدى الأسباب التي ساعدت على تحقيق منجزاتنا مستقبلا .
يقول (إنشتاين) وهو أحد المبدعين المبتكرين عالميًا: إن الحرية مفتاح الابتكار ، وأنا أوافق تمامًا على هذه المسلمة فالقيد يورث العبودية أيًا كان نوع ذلك القيد وتلك العبودية ، والحرية انطلاق في رحاب التفكير والتصرفات وهي المدخل الحقيقي للتجريب والإصرار على تحقيق النتائج الناجحة ، والابتكارات لا يمكن أن تكون دون تفكير إستراتيجي أو تفكير ابتكاري أو تفكير ناقد ومنطلق ومحاولات تجريب متكررة لا يقيدها الخوف من الفشل ، ولذلك يجب علينا أن نعطي مساحة أرحب لأولادنا من الحرية في إطار المعايير غير المقيدة لها لينطلقوا في سماء الإبداع والابتكارات دون تردد أو وجل أو خوف من فشل أو عدم تحقيق نتائج مرضية ، ولعل أديسون الذي جرب لأكثر من ثلاثين ألف تجربة ليصل إلى مبتكره الذي أنار الله به العالم دليل من أدلة الحرية والإصرار على تحقيق النتيجة الإيجابية ، وينبغي أن نجعل منها مثلا لأولادنا يقودهم نحو الابتكار والإبداع دون خوف من الفشل وتكرار الفشل ، وتعويدهم على الإصرار لبلوغ الأهداف دون تردد ، وعدم التقليل من النتائج الناجحة التي يتوصلون إليها من المحاولات والتجريب فربما تقودهم إلى نتائج أفضل ينفع الله بها الأمة والوطن والإنسانية جمعاء ، وعلينا تشجيع التفكير والابتكارات والإبداع إذا ما أردنا لأمتنا النهوض للمنافسة وتحقيق الريادة والتفوق . والله الموفق والمستعان . ،،،

عن admin

تعليق واحد

  1. سلم الفكر ؛؛؛ ودامت الوقفات وراعيها
    نعم. وممالفت نظري وشد انتباهي هي فكرة اعطاء ابنائنا
    القدر الكبير لممارسة ابتكارتهم وتنوعيها
    والله تاريخ مجيد وزاخر بمسيرة. تستحق التدوين بالفعل
    كن هكذا. نارا على علم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كلمتي بمناسبة ذكرى اليوم الوطني الواحد والتسعين 1443-2021

الحمد لله الذي لا إله إلا هو المنعمِ المعطي الوهابِ ربِّ العالمين، ...