لو تصدى كاتب للكتابة للأجيال السابقة والتي أفضت إلى الخالق تبارك وتعالى لوسمه الغالبية بالخرف والعته والجنون ولو تصدى أحد من الكتاب لما سأتصدى له في هذه المقالة فأرجو أن ألا يجابه بسخط المعاصرين من المطلعين على ما يكتب ، فكما أن للمعاصرين الحق على الكتاب في أن يتناولون قضاياهم بالنقد والتحليل والتقويم فإن علينا حق مضاعف تجاه الأجيال المستقبلة من خلال استشراف قضاياهم التي نتوقع حدوثها انطلاقًا من التطورات المعاصرة ، فالمستقبل يشير إلى تعقيدات فكرية ومنهجية تفوق ما لمسناه في عصرنا الحاضر رغم تعقيدات مكوناته الناتجة عن تطورات التقنية ووسائل التثقيف والإعلام والتواصل والاتصالات.
ولعل دراسات المستقبل والدراسات الاستشرافية أضحت مع تطور الفكر البنائي والفكر النقدي ممكنة وميسرة لتوافر أدواتها ومناهجها والبيانات اللازمة لإجرائها مما حفز بعض الكتاب المهتمين بها لتخصيص جل جهودهم في تبنيها، وقد طرقت بوابة استشراف المستقبل في كتابي الموسوم ب” مستقبل التعليم العام في وطني ” وهو الكتاب الأول في سلسلة استشرف معي المستقبل أيمانًا مني بما آمن به المهتمون بدراسة المستقبل وتقديم المقترحات لتلافي معوقاته، وإنني هنا سأتخيل في بعض الوقت إحدى المشكلات المتوقع حدوثها في مستقبل الأجيال بعد القادمة من أحفاد الأحفاد وتقديم بعض المشاهد المتوقع حدوثها لتطور هذه المشكلة وتقديم بعض المقترحات لتلافيها، وقد تفيد مقترحاتي ذلك الجيل المستقبلي في التصدي لهذه المشكلة عند حدوثها بالفعل، ورجائي أن يتعدى نفع ما أكتبه الجيل المعاصر إلى الأجيال المستقبلية.
فالغالبية من المعاصرين يدركون أن التقنيات ووسائل الإعلام والاتصال والتواصل مستمرة في التطور وتقديم الجديد في كل دقيقة ولن أبالغ لو قلت في كل ثانية، فما يشاهد من ابتكارات مسترسلة في مجالاتها يدل على مستقبل أكثر إنتاجًا وتطويرًا لأدواتها وأساليبها التي ستحل محل المعاصر منها ويتوقع أن تنشأ نتيجة تفشيها مجموعة من المشكلات الثقافية والاجتماعية والتربوية المتنوعة، ولعل أبرز مشكلة يتوقع حدوثها من وجهة نظري المتواضعة هي مشكلة التعلم الحر من مصادر متحررة ومنفلتة وغير أخلاقية وهو ما سيسهم في تفكك المجتمعات وطمس هويتها الثقافية والعقدية والاجتماعية وستصبح المفاهيم الأسرية والمجتمعية والوطنية والأممية غائبة وتقليدية وستبرز مفاهيم الفردية والعالمية المتحررة.
ومن المشاهد المستقبلية المتوقع حدوثها بانفتاح أبواب التعلم الحر وظهورها كمشكلات معقدة عند أحفاد الأحفاد ما يلي:
المشهد الأول: الاختفاء التدريجي لنمط الأسرة المتعارف عليها اليوم القائمة على الزواج والمودة والرحمة والمسئولة عن التربية والتنشئة الاجتماعية وسيحل محلها العلاقات المؤقتة والعزوف عن الزواج والهروب من المسئولية والتخلي عن بناء الأسر وتفشي حالات الطلاق عند المتزوجين وتفكك العلاقات الأسرية والاجتماعية، وشيوع الاستقلالية.
المشهد الثاني: ظهور أنماط المدارس المفتوحة وتطور أنماط وأساليب التعليم فيها بما يحقق التعلم الحر وسيترتب على ذلك تقلص أعداد المدارس المتعارف عليها وأعداد المعلمين حيث ستحل التقنيات بأدواتها المتطورة والمدارس الافتراضية عبر التطبيقات مكان المدارس والمعلمين وستفقد الأجيال المستقبلية نتيجة هذه التحولات التعلم من القدوات مما سيؤثر سلبيًا على تكوين الشخصيات، وستبرز الكثير من المشكلات الاجتماعية والأسرية بتفشي الشخصيات الانعزالية.
المشهد الثالث: غياب موثوقية المعلومات حيث سيزيد انتشار الكذب والدجل والخرافات والبيانات الخاطئة ما يؤثر على قواعد التفكير وتكوين الصور الذهنية التي تبنى عليها القرارات والأحكام والاتجاهات والانفعالات عند الأفراد وستغيب مع ذلك معايير الصدق والقيم وقد يصبح لكل فرد قيم وعادات خاصة لا تنتمي إلى ثقافة بعينها ولا إلى مجموعة متوافقة ويشيع التنافر والكراهية والإقصاء الفكري.
المشهد الرابع: ضعف التأثير الجمعي والانتماء المكاني وذوبان الهوية والجنسية وبروز مصطلحات العالمية والكونية بشكل أكثر وضوحًا وتعددًا من المتعارف عليها اليوم وتأثيرها في الحياة العامة وفي العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول العادية والافتراضية.
المشهد الأخير: تفشي الافتراضية في تكوين الشخصية وفي الممارسات والنظريات والمعلومات نتيجة انتشار العوالم الافتراضية من خلال أجهزة التواصل بتنوعها، وطغيان الخيال على التفكير والتعايش الجمعي.
وفي ضوء ذلك المستقبل المفتوح متعدد المشاهد المهددة للبناءات الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية وفقًا لمعاييرنا اليوم فإن على المقدر لهم التعايش مع ذلك المستقبل المرعب العودة إلى أصول التشريع الإسلامي وإلى التأريخ والافادة من محتوياته ذات العلاقة بالعقائد والقيم والإفادة من أفكار الأسلاف وتجاربهم وخبراتهم في مواجهة الانفتاح والتحرر وصياغة التحول إلى الأصول لإنقاذ جيلهم والأجيال التالية لهم من سطوة العولمة المتحررة وغير المنضبطة وما سينتج عنها من انحرافات مؤكدة، وقد تقع مقالتي هذه دون تحريف بين يدي أحد متصفحي المعلومات في جيل أحفاد الأحفاد فيبتسم لما يجده في مشاهدها المتوقعة من توافق قريب مع واقعه المعاصر وقد يستفيد من مقترحاتي فيها لتعديل المنهج والأسلوب وفي سلوك المسار المنقذ والتأثير في الآخرين. وأرجو أن ينفع الله بنا وبما نكتب ابتغاء مرضاته تعالى ثم ابتغاء الإصلاح ما استطعنا. والله الموفق.