ينطلق العالم في التغيير نحو المأمول وحتى المستبعد ، وهو النهج الذي سار عليه الإنسان منذ أن أوجده الله تبارك وتعالى ، وعلمه ما يشاء من علمه ليبني ويعمر ويواصل في النماء باستحداث الجديد كل يوم بل كل ساعة والآن في كل دقيقة بل في كل ثانية ، وتتسع مسافة التغيير مع التقدم في مجال الابتكارات والمخترعات ، فما كان يلزم لتعلمه شهرًا أصبح من المطلوب تعلمه اليوم في ساعة ، وربما تنشأ الأمية باستخدام بعض المخترعات لو أجل تعلمها لدقيقة واحدة ، هذا هو الحال اليوم في ظل تسارع التقانة وولوج مجتمع المعرفة في قرية العولمة ،
فلا أبالغ إن قلت كما قال الدكتور عثمان الصيني أن البعض منا اليوم لا يعرف من أجهزة الجوال إلا استقبال وإرسال المكالمات والرسائل النصية، ولا يعرف من الإنترنت إلا إرسال البريد الإلكتروني واستقباله وتصفح بعض المواقع من المفضلة، أما استخدام الوسائط الإعلامية المتعددة فهو طموح كبير، لكن الوصول إلى مرحلة البلاك بيري والآي فون والكونكت واستخدام المدونات والشبكات الاجتماعية مثل الفيس بوك وتويتر وماي سبيس وغيرها فهو عند أكثرنا من باب العلم الذي لا ينفع ولا يضر الجهل به، في حين أن طلاب المراحل مادون الجامعية اليوم يعدون ذلك من البديهيات المطلوبة للتواصل مع جيلهم ، لا للتواصل مع الجيل الأمي بهذه المتغيرات المتسارعة ، وعليه فقد رأينا توسع دائرة انقطاع الصلة إلى حد كبير بين الجيل الشاب والجيل الذي قبله بسنوات بسيطة ، وقد تتسع المشكلة في المستقبل لتصل إلى انقطاع الصلة بين الجيل نفسه بحسب فروق اكتساب ثقافة التعامل مع التقنيات والمستحدثات الجديدة .
يقول أحد الزملاء: أتذكر وأنا في زمن التعليم الجامعي كيف نرى أن جيلنا قد سبق جيل أساتذتنا بسنوات لتعرفنا حينها على بعض الوسائط الإليكترونية البسيطة مثل البيجر ، والأتاري والتي لم يستوعبون أساتذتنا المثقفون تعقيداتها آنذاك، واليوم وأنا أقف أمام ابني الذي لم يكمل التعليم الابتدائي أجدني أنفض رأسي عندما يتحدث مرات عديدة لأنني لا استوعب ما يتحدث عنه حول التقنيات والألعاب والأجهزة والبرامج الحاسوبية المتعددة ، وأحس أنني في حاجة ماسة لأعود إلى سنه فأشاركه اللعب والتفكير والثقافة لأفهم ما يريد التعبير عنه ، إنه الزمن المتغير يفصل بين فكر الأجيال قسرًا ولا حل إلا بالاشتغال بالمواكبة المستمرة وهو ما لا تحتمله طاقاتنا المتواضعة .
لقد نظر بعض المثقفين إلى تجسير الفجوة بين الأجيال من عدة جوانب ، فمنهم من رأى أن التجسير يمكن تفعيله بالتأصيل الشرعي للعلوم والتقنيات ومطالبة الأجيال الجديدة للعودة إلى الأصل لتلتقي عنده الجسور بين الأجيال ، ومنهم من يرى أن التجسير يمكن تفعيله من خلال تعليم الجيل السابق علوم وتقنيات الجيل اللاحق وجعله في دائرة التواصل الفكري معه ، ومنهم من يرى أن التجسير المنطقي يتم من خلال تحديد الجوانب المشتركة بين الأجيال المتعاقبة والتركيز على جعلها جسور تواصل وترك ماعداها تمييزًا للجيل عمن سبقه ، وأؤيد من يقدر ملاحقة الجديد واستيعابه ثقافة واستخدامًا للعلم من أجل التواصل ، وهو ما ننادي به في ميدان التربية والتعليم ، ونطالب المعلمين باستخدام الاستراتيجيات الملائمة لخصائص الدارسين ، ولن يتأتى لأحد منهم تحقيق ذلك إن لم يواكب ثقافة الجيل الجديد ومكتسباته ، وهو أمر مرهق في عصر المتغيرات المتلاحقة وبالسرعة التي قد توصف بالجزء من الثانية ، وكان الله في عون الأجيال القادمة فالحمل عليهم أصعب من الحمل علينا ليواكبوا ثقافة الأجيال التي تتلوهم ، وجسور التواصل معهم أصعب في الإنشاء والإحداث .
يقول الكاتب الأمريكي جاكسون براون مؤلف كتاب life`s little instruction book موجهًا نصيحته لابنه المستهدف بالكتاب ، ” لا تصدق كل شيء تقرؤه ” وهو يصف في كتابه ما سيصبح تاريخًا لجيله في نظر جيل ابنه ، وهو يعلم أن المتغيرات ستنقل جيل الأبناء إلى ما يرون معه سذاجة الماضي وتأخره مستغربين ما كان عليه الآباء من أمية موغلة .
فهل نحن في نظر أبنائنا أميين فعلا ؟، يمكننا الإجابة عن ذلك بقياس مدى صلابة جسور التواصل بيننا وبين أبنائنا وسؤالهم عما إذا كانوا يفهمون ما نقول وسؤال أنفسنا عما إذا كنا نفهم ما يقولون وتقييم مدى فهمنا واستيعابنا لأفكارهم وطموحاتهم في عصر النانو العصر الذي يقاس فيه الزمن بالجزء من المليون من الثانية، والله الموفق ،،،،