(14) مستقبل تقويم التعليم في الوطن العزيز
المتابع لتأريخ التعليم في المملكة العربية السعودية يلمس أن مفهوم التقويم التربوي عرف في منظومة العمل في الجهات المشرفة على التعليم بتعددها وإن اختلف تفسير ذلك المفهوم بينها ، إلا أنه كان يتصل غالبًا بأساليب الاختبارات والقياس التي تستهدف قياس مستويات التحصيل الدراسي لدى المتعلمين لإصدار الحكم بشأن انتقالهم بين صفوف المراحل الدراسية وقليل ما كان يستفاد من نتائج التقويم التربوي لتطوير عناصر المنظومة التعليمية الأخرى
وقد اتخذ التقويم التربوي في الوطن العزيز مجموعة من الصور والأشكال وتطور بتطور الفكر التربوي والنظريات والمناهج التربوية المعمول بها ، وظهرت عبر تأريخ التعليم مجموعة من المشروعات التي تهدف إلى تطوير أساليب وآليات التقويم التربوي منها على سبيل المثال مشروع التقويم المستمر ومشروع الاختبارات الوطنية لقياس جودة التحصيل الدراسي لدى المتعلمين ومشروع الإختبارات التحصيلية الوطنية المقننة ومشروع التقويم الشامل للتعليم ومشروع التقويم الشامل للمدرسة ومشروع اختبارات الكفايات الأساسية للمعلمين ومشروع الاعتماد التربوي للمدارس الأهلية ومشروع تقويم التعليم للجميع ومشروع قياس للتعليم العالي ، وغيرها من المشاريع التي كانت تهدف إلى تطوير التعليم من خلال نتائج التقويم التربوي إلى أن صدر الأمر السامي بتأسيس هيئة تقويم التعليم العام في المملكة لرفع جودة التعليم العام و كفايته ، ودعم التنمية و الاقتصاد الوطني من خلال تحسين مخرجات التعليم العام.
لقد أولت الأنظمة التعليمية في مختلف بلدان العالم موضوع التقويم التربوي أهمية كبيرة نظراً لآثاره المهمة في العملية التعليمية وتحقيقها أعلى مستويات الجودة ، كما أوصت الكثير من المنظمات الدولية المعنية بالتربية بقيام الدول بإجراء تقويم دوري لتعليمها، وقد تضمن إطار عمل مؤتمر داكار للتعليم للجميع الذي عقد في إبريل عام 2000م والذي اعتمدته جميع الدول المشاركة في ذلك المؤتمر دعوة للدول بوضع الاستراتيجيات وتعبئة الموارد اللازمة لدعم الجهود الوطنية بالقيام بمراقبة أدق وأكثر انتظاماً لما يحرز من تقدم نحو تحقيق أهداف وغايات التعليم للجميع بما في ذلك اجراء عمليات تقويم دورية، فالاهتمام بتقويم التعليم يزداد في الوقت الحاضر ، وذلك لعلاقته بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يتعدى الاهتمام به حدود المؤسسات التربوية إلى الجهات العليا في الدول، فيتوقع أن يقدم التقويم معلومات حول وضع التعليم ومدى تلبيته للاحتياجات الوطنية. فالحكومات عادة تنظر إلى التقويم كوسيلة للحصول على معلومات يمكن الاستفادة منها في تطوير السياسات المستقبلية أو إعادة توجيه السياسات الحالية، بالإضافة إلى استخدام نتائجه في عملية التخطيط ، فالهدف الأبرز للتقويم التربوي ليس الاقتصار على إصدار أحكام بل لابد أن تستثمر نواتجه للتخطيط لتطوير التعليم مستقبلا ، فهو موجه لاتخاذ قرارات معينة إذ إنه يسعى إلى وضع سياسات وممارسات تربوية أفضل ومن يتابع تأريخ التقويم التربوي في الوطن العزيز لا يلمس له تأثيرًا قويًا في عمليات تطوير عناصر المنظومة التربوية مثل المناهج وبرامج إعداد المعلمين وبرامج التدريب التربوي أثناء الخدمة وأساليب واستراتيجيات التدريس وأساليب إدارة المواقف التربوية المتنوعة وأساليب الإدارة التربوية والتعليمية وبرامج الأنشطة المنهجية الصفية وغير الصفية وتجويد البيئات التربوية والتعليمية وأساليب تقويم التحصيل الدراسي ونحوها مما يجب استثمار نواتج التقويم التربوي لتطويرها ، فهناك حاجة ماسة لإجراء تقويم للتعليم العام والتعليم العالي في المملكة يشمل جوانب تقويم السياسات التعليمية بما في ذلك اللوائح والأنظمة، وتقويم المؤسسات التعليمية والجهات المسؤولة عن التعليم ، وتقويم البرامج التعليمية، وتقويم عناصر العملية التعليمية مثل المناهج وطرق التدريس وتقنيات التقويم والإشراف والإدارة المدرسية ، وتقويم الأفراد مثل تقويم المعلمين ومديري المدارس والمشرفين التربويين ، وتقويم مخرجات التعليم ، وتقويم الكفاءة الداخلية والخارجية للنظام التعليمي ويؤدي بالضرورة إلى تطوير ملموس فيها جميعًا بما يجود التعليم ويرفع كفاءته الداخلية والخارجية وكفاءة نواتجه المأمولة .
وقد أحسنت حكومة المملكة العربية السعودية بتأسيس المركز الوطني للقياس والتقويم في التعليم العالي وتأسيس الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي وتأسيس هيئة تقويم التعليم العام ، وقد نادى بعض الخبراء والتربويين كما ناديت بأهمية دمج هذه المؤسسات في مؤسسة واحدة تهدف إلى تقويم التعليم العام والعالي للإعتماد والجودة بهدف تجويد المدخلات والعمليات والمخرجات التعليمية كافة سواء تلك المتصلة بالتعليم العام أو التعليم الفني والتدريب المهني والتعليم العالي بكل صوره وأشكاله وقد زاد الأمر إلحاحًا لتنفيذ ذلك بعد دمج وزارة التربية والتعليم مع وزارة التعليم العالي في وزارة التعليم ، لتقوم مؤسسة تقويم التعليم بما تقوم به مثيلاتها في الدول المتطورة تعليميًا وأبرزها العمليات الآتية :
1) وضع خطط طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى لتقويم التعليم.
2) وضع معايير لمختلف عناصر العملية التربوية بمدخلاتها وعملياتها ومخرجاتها.
3) تحديد المنهجيات المناسبة والإجراء لعملية التقويم وطرق اختيار العينات.
4) تطوير أدوات القياس المستخدمة في عملية التقويم والتحقق من صدقها وثباتها وعدالتها.
5) تنفيذ عمليات التقويم وفق آلية عمل محددة وعلى مختلف المستويات للمؤسسات التعليمية والبرامج والنواتج التعليمية والأفراد.
6) تصميم وبناء اختبارات القدرات والتحصيل الدراسي للطلاب والترخيص المهني لمختلف العاملين في المجال التعليمي من أعضاء هيئة التدريس والقيادات التعليمية والمعلمين والمشرفين التربويين ومرشدي الطلاب وغيرهم.
7) تطوير معايير الاعتماد الأكاديمي والإعتماد المدرسي وتطبيقها على المؤسسات التعليمية المختلفة .
8) نشر قوائم التصنيف وفق معايير الإعتماد للمؤسسات التعليمية وإتاحة التعرف عليها لجميع المستفيدين من التعليم .
9) إعداد تقارير دورية عن حالة التعليم في المملكة العربية السعودية بعناصره المختلفة ونشرها.
10) تطوير معايير ومواصفات للجودة في عمليات التقويم والتأكد من الوفاء بها .
11) توظيف نتائج التقويم في عمليات التطوير التربوي والتعليمي .
وقد أشارت بعض الدراسات والبحوث والمشاركات التي قدمت في المؤتمر الأول للتقويم الذي نظمته هيئة تقويم التعليم العام برعاية خادم الحرمين الشريفين في مدينة الرياض في المدة من 21-23 محرم 1437 هـ ، 3-5 نوفمبر 2015م أشارت إلى ما ينبغي أن يكون عليه مستقبل تقويم التعليم في البلدان التي ترغب في المنافسة الدولية على جودة التعليم ومنها الوطن العزيز ، وقدمت بعض الدراسات مقترحات لتطوير التقويم ليشمل جميع أنواع التعليم في المملكة العام والفني والمهني والعالي ، ولعلي من المؤيدين لتوحيد إجراءات التقويم والاعتماد والجودة لقطاعات التعليم المتنوعة وإسنادها لجهة واحدة مستقلة ومتجردة ومحايدة في إصدار الأحكام والمقترحات للتطوير ، وقد يتحقق ذلك في مستقبل تقويم التعليم في الوطن العزيز بإذن الله .
ولتخيل مستقبل تقويم التعليم في الوطن العزيز في ظل مشاهدات الواقع وقراءة تأريخ تطور التقويم التربوي وتقويم التعليم اللذان شهدا مجموعة من التطورات نتيجة للتغيرات في منهجية إدارة التعليم وتغير القيادات العليا في الجهات المشرفة على التعليم ونتيجة لسياسة الدولة في دمج بعض أنواع التعليم والتي لم تكتمل منظومتها بعد ، فإن المشاهد والسيناريوهات المتخيلة لمستقبل التقويم التربوي من وجهة نظري المتواضعة تتمثل في الآتي :
المشهد الأول : ويقوم على تخيل بقاء الجهات المشرفة على التعليم على الحال الذي آلت إليه وبقاء الجهات القائمة على التقويم كذلك وفي هذه الحالة ستنشط كل جهة في الجوانب التي تقوم عليها بتنفيذ البرامج والمشروعات المستهدفة وقد يتم التنسيق بينها إلا أن نواتج التقويم ستظل بعيدًا عن الاستفادة منها لأغراض تطوير التعليم حيث سينشغل القائمون على التقويم بالتقعيد والتأسيس وتصميم الأدوات والوثائق وبناء المعايير والاختبارات وأدوات القياس وتطبيقها دون التدخل في توظيفها في عمليات التطوير التربوي والتعليمي وعليه ستستمر الاجتهادات في عمليات التطوير وفقًا لما تتبناه الجهات القائمة عليه .
المشهد الثاني : ويقوم على تخيل صدور أمر حكومي بدمج التعليم الفني والتدريب المهني في وزارة التعليم ودمج كل المؤسسات القائمة على تقويم التعليم والإعتماد الأكاديمي والتعليمي والفني والمهني في مؤسسة واحدة مستقلة تقوم بإعداد خطتها الإستراتيجية إنطلاقًا مما وصلت إليه مؤسسات تقويم التعليم وفي هذه الحالة يتوقع أن يستفاد فعليًا من نواتج التقويم في عمليات التطوير ويتوقع أن تقوم هيئة التقويم بما يماثل ما تقوم به مثيلاتها في دول العالم المتقدم والمتطور تعليميًا .
المشهد الثالث : ويقوم على بقاء التعليم الفني والتدريب المهني مستقلا عن وزارة التعليم ، وصدور قرار باستقلال الجامعات والمؤسسات القائمة على التقويم والقياس والاعتماد الأكاديمي ، وفي هذا المشهد سنشاهد مؤسستان مستقلتان لتقويم التعليم أحداهما معنية بالتعليم العالي بدمج مركز قياس في الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي والثانية لتقويم التعليم العام تتمثل في هيئة تقويم التعليم العام المتوافرة في الواقع ، وعليه ستعمل كل منهما في وضع خططها الإستراتيجية لتحقيق أهداف تجويد التعليم والإعتماد والتصنيف للمؤسسات والمشروعات والبرامج وقد يستفاد من مخرجاتها في عمليات التطوير حيث سيتوقف ذلك على قناعة الجهات القائمة على عمليات تطوير التعليم الحكومية والأهلية .
المشهد الرابع : ويقوم على رغبة الحكومة والمواطنين في تجويد مدخلات التعليم بكل أنواعه ومراحله وعملياته ومخرجاته وصدور قرار بتكليف هيئة تقويم التعليم العام بشمول التعليم العالي والتعليم الفني والتدريب المهني ضمن خططها واستراتيجياتها وعليه سيتم إلغاء مركز قياس وهيئة تقويم التعليم والاعتماد الأكاديمي في التعليم العالي ومثيلاتها في التعليم الفني والتدريب المهني لتضاف إلى مهام هيئة تقويم التعليم وستعمل الهيئة وفق منهجيتها المعلنة في بناء وتصميم المعايير وأدوات القياس وبناء الوثائق المتنوعة لتشمل جوانب تقويم السياسات التعليمية بما في ذلك اللوائح والأنظمة، وتقويم المؤسسات التعليمية والجهات المسؤولة عن التعليم ، وتقويم البرامج التعليمية، وتقويم عناصر العملية التعليمية مثل المناهج وطرق التدريس وتقنيات التقويم والإشراف والإدارة المدرسية ، وتقويم الأفراد مثل تقويم المعلمين ومديري المدارس والمشرفين التربويين ، وتقويم مخرجات التعليم ، وتقويم الكفاءة الداخلية والخارجية للنظام التعليمي وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى تطوير ملموس يتوقع أن يجود التعليم ويرفع من كفاءته الداخلية والخارجية وكفاءة نواتجه المأمولة.
المشهد الخامس : وهو من أكثر المشاهد تشاؤمًا حيث يتوقع إسناد عملية تقويم التعليم لوزارة التعليم نفسها بدمج الهيئات والمراكز القائمة على القياس والتقويم في الهيكل الإداري المتضخم لوزارة التعليم مما سيعيد الأمور إلى سابق عهدها ولا يتوقع أن تفضي عمليات التقويم في هذه الحالة إلى تطوير ملموس وقد تحجب نتائجها إلا على غير بضعة نفر من القيادات العليا بهدف التصنيف وتحديد جوانب القصور لاتخاذ بعض القرارات المتعلقة بتكليف القيادات ، ولا يتمنى الغيورون على الوطن حدوث مثل هذا المشهد المرعب والذي سيهد ما تم بناؤه في مجال تحقيق أهداف تجويد التعليم من خلال عمليات التقويم .
ولعلي أميل إلى المشهد الذي يتوقع مؤيدوه دمج مركز قياس وهيئة التقويم والاعتماد الأكاديمي في هيئة تقويم التعليم العام تحت مسمى هيئة تقويم التعليم والاعتماد والجودة وسيضاف إلى مهامها شمول التعليم الفني والتدريب المهني وبقائها مستقلة عن الوزارات والمؤسسات القائمة على إدارة التعليم والتدريب بغض النظر عن دمج تلك المؤسسات أو إعادة فك ارتباطها أو بقائها على حالها ، وستكتمل صورة المشهد جمالا عندما يصدر أمر بإلزام الجهات القائمة على تطوير التعليم العام والعالي والفني والتدريب بالانطلاق في عمليات التطوير لجميع عناصر ومكونات العملية التعليمية والتدريبية من نواتج ومخرجات عمليات التقويم ، وربط ميزانيات المؤسسات التعليمية ومؤسسات التدريب بنواتج تقويمها وتصنيفها المعلنة على المؤشر السنوي الصادر عن الهيئة حفزًا لها على عمليات التجويد المستمرة ، وسيظل المهتمون بعمليات تجويد التعليم للوفاء بمتطلبات التنمية الوطنية يتابعون التطوير في الهياكل والأنظمة لمؤسسات قيادة التعليم ومؤسسات تقويم التعليم متفائلين بغد أفضل للتعليم في وطننا العزيز ، وندعوا الله أن يتحقق للتعليم في الوطن العزيز ما يمكنه من المنافسة العالمية والله الموفق والمستعان .