الزمن الفاصل بين الهرطقة والمنطق !!
لو قدر الله لي أن أعيش في زمن جدي بقرية الحكمان في منطقة الباحة في العقدين الأولين من القرن المنصرم ، وقدر لي أن أتحدث معه واصفًا بعض ما يجري من الأحداث وأساليب الاتصال اليوم ماذا يتوقع أن تكون إجابته ورده وتعليقه ، فلو قلت له جادًا : خذ الهاتف الجوال لتتحدث مع قريبنا القاطن في نجد ، أو أن قريبنا خرج الآن من بيته في نجد وسيكون بإذن الله بعد ساعتين بين ظهرانينا ، أو قلت له بدأت المباراة بين فريق كذا وكذا المقامة في الأستاذ الرياضي في الرياض أو في جدة أو في الشرقية سأذهب لمشاهدتها حية على الهواء من خلال جهاز التلفزيون ،
أو قلت له أمهلني بعض الوقت لأكتب مقالتي الأسبوعية على موقعي على الإنترنت ، أو قلت له سأتسوق من خلال هذا الجهاز الحاسوبي وسأدفع قيمة السلعة بالبطاقة الإليكترونية وستصلني السلعة حيث أنا ، ولو قلت بعضًا مما يجري من أحداث تتعلق بالتقنيات ووسائل الاتصالات الحديثة ، لرد علي في التو : اللهم شافه مما يعانيه ، وألطف به يا لطيف ، ولسألني مستغربًا : بماذا تخرّف وتهرطق ، أبك مس من الشيطان ؟ أم أنك تهرف بما لا تعرف؟ أمور وأحاديث وأوصاف لا يمكنه تصديقها في ظل الظروف المحيطة به والمعرفة المقدرة له والإمكانات المتوافرة .
وفي المقابل لو بدأت أهرطق اليوم على جيلي والأجيال الناشئة وشرعت القول بأنني كنت أتجول قبل ثوان في متحف الإرميتاج بسانت بتربورغ أو في متحف اللوفر بباريس وشاهدت كذا وكذا وتحدثت مع فلان وفلان ، والتقطت هذه الصور ، أو شرعت القول بأن الشارع الفضائي كذا كان مزدحمًا بالطائرات لسبب ما ، وأن أجهزة المرور الآلية حولت المسار إلى الشارع الآخر ، أو شرعت القول بأني كنت أتحدث مع مجموعة من الأشخاص من لغات مختلفة دون الحاجة إلى تغيير لغتي وجميعهم كان يسمعني بلغته ، وكانوا يتحدثون كل بلغته وكنت أسمعهم يتحدثون بلغتي ، وشرعت القول أخيرًا بأني رشحت نفسي لانتخابات الرئاسة العالمية أو البرلمان العالمي ، أو أنني سأقترع لها من خلال أجهزة الاقتراع الإليكترونية ، سأتوقع إجابات الكثير من جيلي والأجيال الناشئة بأنني أهرطق ، أو اعتقادهم أن بي مس من الشيطان ، أو أنني أهرف بما لا أعرف.
هكذا هو الزمن فاصل بين الهرطقة والمنطق ، وبين الخيال واليقين ، فما كان بالأمس مستحيلا كان اليوم واقعًا ملموسًا ، وما هو اليوم مستحيلاً سيكون بإذن الله وبعلم الله واقعًا حقيقيًا في يوم من الأيام ، والأيام دول ، والخبراء في مهارات الابتكار يعتقدون بأن مفاتيح الابتكار تكمن في الهرطقة ، وأن الخيال الواسع والتفكير في المستحيل هو الطريق لإنجاز المخترعات العظيمة ، فدعونا وأولادنا نهرطق بالمستحيل اليوم والعمل على تحويله إلى يقين ملموس ، فبهذا الأسلوب يمكننا أن ندخل مضمار السباق العالمي لتحقيق المستحيلات بعون الله وتقديره .
وحتى نفهم السر الخفي وراء الهرطقة سأفتح بابًا مواربًا فيها ، وأقول هل فكرنا بالحلول المستحيلة لمشاكلنا؟ ، لماذا نتوقف عندما نقدر بأنها مستحيلة ؟ أليس ما بين أيدينا اليوم من مقبول كان مستحيلا بالأمس ، أو ليس الله كرمنا بعلمه ، وهل في علم الله مستحيل ؟ إن وقف التفكير في المقبولات عدا المستحيلات هو تعطيل للعقل المبدع ، وأن الله ما خلق العقل بسقوف ، فعلينا التفكير مليًا في إصرارنا على سقف عقولنا بأي محددات عقدية أو عرفية . ولنطلق العنان للسؤال والتفكير في الحلول المستحيلة ، عندها سندرك أننا قصرنا عندما رسمنا لعقولنا حدًا قبل المستحيل. ولنحذر أيضًا من هذا الباب الذي اتخذه الملحدون طريقًا لدعوة الناس إلى الإلحاد والكفر بحجة أن تحديد طاقة العقل قائد إلى التخلف ، أو بحجة أن إطلاق العقل بعد سقوف العادات والتقاليد والموروثات والأديان هو تجلي للحكمة والعلم والإبداع ، وعلينا الأخذ بالعلم والحيطة من الإلحاد ، فالتدبر والتفكر صفات المؤمنين والتعدي في التفكير صفة الملحدين ، فلنسدد ونقارب ، ولنهرطق بعيدًا عن الإلحاد أو التطاول على الله ، تعالى الله عما يشركون ، وأدعوا الله أن يبصرنا بعلمه العظيم وأن يمنحنا القدرة على تجاوز المستحيل ، وأن يهبنا الرشد لتقدير خلقه العظيم ، والله الموفق ،،،،،.