وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة.. شعار تبناه معالي وزير التربية والتعليم الأسبق في وطني العزيز الدكتور محمد الرشيد رحمه الله وتحول في عهده مسمى وزارة المعارف إلى وزارة التربية والتعليم قبل أن تتم التعديلات في الهيكلة الإدارية للتعليم العام والعالي وتدمج وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي في وزارة واحدة بمسمى وزارة التعليم وتستبعد التربية من التسمية الجديدة للوزارة ، وقد اهتم رحمه الله وكل من وافقه في عهده بالتربية بكل مفاهيمها المتطورة ونادى بالاهتمام بتطبيقاتها العملية على مستويات البيت والمجتمع والمدرسة باعتبارها أساس من أسس التعليم وما لبث هذا الاهتمام أن أفل نجمه وبدت اهتمامات جديدة لدى قيادات التعليم المتعاقبة .
وقد لفت نظري مقدمة الشعار حيث يمكن إضافتها إلى الكثير من المفاهيم وتبنيها شعارات لدعم منهج أو توجه أو سياسة أو ثقافة بعينها أو دعاية حزبية أو مذهبية أو انتخابية في بعض المجتمعات، كأن نقول: وراء كل أمة عظيمة حكومة ديموقراطية. أو نقول: وراء كل أمة عظيمة فكر وسطي، أو نقول: وراء كل أمة عظيمة اقتصاد مفتوح، أو نقول: وراء كل أمة عظيمة تعليم متحرر، أو نقول: وراء كل أمة عظيمة مجتمع مثقف، أو نقول: وراء كل أمة عظيمة تاريخ مزدهر، وهكذا …. سيجد أحد ما في إحدى هذه الشعارات وجاهة ومنطقية وقد يجد آخر في غيرها ما هو أوجه من وجهة نظره، فالصور الذهنية عن أهم الأسباب التي تقف وراء نهضة الأمم ستحدد أي سبب يصلح أن يكون شعارًا مقرونًا بالأمة العظيمة.
ولعلي من بين من يؤمنون ولا يزالون يؤمنون بالتربية كأهم الأسباب الوجيهة في رقي الأمم ومن يؤمنون بأن التعليم لا ينفك عن التربية بأي شكل من الأشكال وأن الأمم التي تهمل جوانب التربية لن تكون من الأمم العظيمة أبدًا، وهنا نقف لنسأل عن ماهية التربية العظيمة التي تسهم في عظمة الأمة؟ وماهي المعايير المطلوبة لضمان الحد الأدنى لجودة التربية، وقد أسهب التربويون على مر التأريخ في تبيان أسس التربية السليمة، وتصدى بعض الأكاديميين من المسلمين لبيان الأسس الإسلامية للتربية، وجميعها اجتهادات تقوم على مفاهيم الصلاح والجودة للتربية من وجهات النظر المتعددة، فالتربية الصالحة لمجتمع أوربي مثلاً ليست بالضرورة صالحة لمجتمع شرقي أو مجتمع إسلامي، فالأسس التي تقوم عليها التربية في أي مجتمع هي من تحدد نوعية التربية وسلامتها وصلاحها، وتربية لا تقوم على أساس التشريع الإسلامي مثلا لا تصلح من وجهة نظري لمجتمع مسلم ، وكذلك بالنسبة للأسس الثقافية والاجتماعية والعقائدية الأخرى، فكل مجتمع أو أمة لها ما تؤمن به من القواعد والأسس للتربية لكنها جميعًا لا غنى لها عن تربية عظيمة تقوم على أسس عظيمة لإنتاج أمة عظيمة في كل الحالات.
وإذا ناقشنا موضوع التربية والقائمين عليها فسنجد أن كل إنسان صالح ذكرًا كان أم أنثى له دور مهم وإسهام مباشر وغير مباشر في حدوث التربية لذاته ولغيره وليس هناك عمرًا محددًا للتربية فهي ملازمة للفرد من المهد إلى اللحد وقد تتم التربية من الكبار للصغار وكذلك العكس، وقد تمارس التربية المخططة وقد تمارس العفوية منها والعشوائية وهي تتطور بالتراكم وتتأثر بالمتغيرات والمستجدات المتنوعة المؤثرة في الأسس التي تقوم عليها لدى الأفراد والمجتمعات والحكومات والأوطان، وتختلف أساليبها وأدواتها باختلاف مستخدميها ونوعية ثقافتهم واتجاهاتهم وسماتهم الشخصية، ولكل نوع من أنواع التربية المستخدمة مخرجات تعكس تنوعها واتجاهاتها، ومن الواجب على الأمم والحكومات والأنظمة التربوية والتعليمية والثقافية والاجتماعية تبني سياسات ومناهج مخططة للتربية وتثقيف المجتمع بها وبأساليبها الناجحة لإحداث الآثار المأمولة لدى المستهدفين بها أفرادًا أو جماعات.
يتفق الكثيرون من التربويين والمتخصصين على أن البيت هو محضن التربية الأول وأن الوالدين هما العامل المؤثر الأول في تربية أولادهم ولذلك تعنى الكثير من الثقافات والنظم الاجتماعية والدول المتقدمة والمتحضرة بأهمية تثقيف الوالدين بأساليب تربية الناشئة، ونحن في الإسلام نؤمن بذلك فعلاً فهذا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم يقرر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم بقوله: ” مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ”، وهذا يؤكد دور الوالدين في استقامة تربية أولادهما أو انحرافها عن الحق أو عن المنهج المأمول، ولا تتوقف التربية عند البيت والوالدين بل تمتد إلى الأقران والأصدقاء والمجتمع والمدرسة ودور التثقيف المتنوعة وفي الوقت المعاصر إلى وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الإعلام التقليدية والمتطورة والجديدة، وكل منها يحدث أثرًا في تربية الفرد بقدر تأثره بمخرجاتها، ولهذا فإن ضبط معايير تقديم تربية مأمولة لأفراد مجتمع معين يعد من المستحيل اليوم في ظل العولمة وانتشار التقنيات والثقافات العابرة، وقد يتأتى لبعض ادول والحكومات والأنظمة التعليمية والاجتماعية والثقافية تصميم برامج تربوية أسرية وتعليمية واجتماعية يقوم عليها خبراء ومتخصصون لكنها ستقف عاجزة أمام مد التقنيات المعاصرة والتي لم تحد منها سياسات الحجب والمنع وترشيد المحتويات في الكثير من دول العالم المتحفظة على انفتاح فضاءات الأنترنت والغزو الثقافي المتواصل والمتجدد الأساليب والأدوات، ولعل الحل في حصانة التربية المأمولة من وجهة نظري المتواضعة يبدأ من حصانة الوالدين أولاً وتثقيفهم بأساليب رفع الوعي لدى الناشئة لتقييم ما يقدم لهم بعد ذلك في وسائل التربية الأخرى في المدرسة والمجتمع ووسائل الاتصال والتواصل المتنوعة والإفادة مما يتوافق مع القواعد التي غرسها الوالدين فيهم بالتربية السليمة والمأمولة.
ولذلك فإن شعار ” وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة ” شعار يتضمن الحقيقة المطلقة وأن ما عداه من الشعارات يتبعه في الأهمية حيث إن التأريخ وثقافة المجتمع وقوة الاقتصاد وعدالة الحكومات وصلاح العقيدة عوامل مهمة لبناء أمم عظيمة ولكن التربية العظيمة تسبقها جميعًا في بناء الأمم العظيمة، والله الموفق.