الوقفة الثالثة والثلاثون : معلم اجتماعيات بالثانوية المحدثة بجدة
مع مطلع العام الهجري 1403هـ وبعد أن تسلمت وثيقة التخرج في جامعة أم القرى بمكة المكرمة رغبت في مواصلة الدراسات العليا في ذات الجامعة واتجهت وزميلي المتخرج معي في نفس العام المتوافقة رغبته مع رغبتي الأخ العزيز الدكتور محفوظ الزهراني وفقه الله تعالى إلى مكتب عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية للتقديم على وظائف معيدين في الجامعة وكنا مصطحبين معنا جميع الوثائق المطلوبة .
وتلقينا الإجابة التي لم نتوقعها آنذاك لأسباب كثيرة لعل من أولها نسبة أعضاء هيئة التدريس من السعوديين في الجامعة والتي لم تتعدى آنذاك العشرين في المائة ، وقد لا تزيد في الكلية والقسم عن الثلاثين في المائة ، وأذكر أن الأستاذ الدكتور حمزة الفعر وفقه الله عميد الكلية آنذاك أكد لنا إجابة مدير مكتبه معتذرًا لعدم وجود وظائف شاغرة وعدم إدراج وظائف جديدة للمعيدين في الكلية لميزانية ذلك العام وعلينا الانتظار إلى العام التالي إن كانت رغبتنا جادة .
واتجه زميلي العزيز للبحث عن بدائل للجامعة حيث وفق حفظه الله تعالى في الحصول على وظيفة معيد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض وواصل دراساته العليا إلى أن حصل على الدكتوراه في تخصصه من فرنسا وعاد للعمل أستاذا مساعدًا في جامعته ، أما أنا فقد حاولت جاهدًا للبحث عن بدائل في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وفي جامعة الملك سعود بالرياض وسبحان الله مقدر الأقدار الذي لم يشأ لي الحصول على وظيفة معيد في ذلك العام ، وتزامن ذلك الإخفاق مع بداية مشروع مشترك مع الأخوة الأشقاء لبناء منزل في قرية الحكمان مما دفع أخوتي إلى الإلحاح مطولا علي للتقديم على وظيفة التدريس في وزارة المعارف التي كانت تعتمد صرف مكافأة للمعينين الجدد تقدر بخمسين ألف ريال إضافة إلى راتب شهرين بدل تعيين ، ولم يشجعوني على الانتظار إلى أن تتوافر وظيفة معيد في إحدى الجامعات السعودية ، لحاجتهم الملحة للمال لتنفيذ المشروع وحاجتهم للتعاون معهم وفق الخطة المرسومة لمشروعنا المشترك.
وقد أذعنت لرغبة الأهل ولظروفي الشخصية الأخرى التي لا يمكنني معها الانتظار حتى تتوافر وظيفة معيد في إحدى الجامعات السعودية ، واتجهت إلى ديوان الخدمة المدنية بجدة وقدمت لهم طلبي، ولم يمر علي في حياتي معاملة أسرع إنجازًا من تقديمي على وظيفة معلم حيث حصلت على طلبي في أقل من ساعة مكثتها في مكتب ديوان الخدمة المدنية قبل أن يتحول إلى وزارة الخدمة المدنية في الوطن العزيز ، واتجهت بعدها إلى مدينة الرياض للحصول على التوجيه من إدارة شؤون المعلمين بوزارة المعارف للتدريس بأحد مناطق المملكة ، وقد كانت استجابة الوزارة سريعة أيضًا حيث عدت إلى جدة في اليوم التالي ومعي قرار التعيين على وظيفة مدرس اجتماعيات للمرحلة الثانوية في المنطقة الغربية بمدينة جدة ، وقد يكون من بين أسباب تلك المعاملات السريعة ما تعانيه المملكة من نقص في الكوادر الوطنية بوظائف المعلمين في المرحلتين المتوسطة والثانوية حيث لم تتجاوز نسب المعلمين السعوديين آنذاك الأربعين في المائة وتزيد نسبة المعلمين غير السعوديين في بعض التخصصات مثل الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية عن السبعين أو الثمانين في المائة ، وقد عرض علي المعنيون في إدارة تعليم جدة آنذاك التدريس في بعض المدارس البعيدة والنائية واعتذرت عن ذلك ، وبعد إلحاحي بالطلب للتعين في داخل المدينة تم تعييني على وظيفة معلم اجتماعيات بالمدرسة الثانوية المحدثة بجدة.
في السابع من شهر صفر 1403هـ باشرت عملي في الثانوية المحدثة حيث قدمت قرار تعييني وتوجيهي إلى مدير الثانوية المحدثة آنذاك الأخ الأستاذ عمر مغربي وفقه الله وكانت تعمل في الفترة المسائية بمبنى مدرسة ابن سيناء المتوسطة بحي الكندرة بمدينة جدة ولم يكن بالمدرسة من المعلمين السعوديين سوى الأخ الأستاذ عبدالرحيم القرشي وكيل المدرسة والأخ الأستاذ صدقة أبو طالب معلم الرياضيات وبعض المعلمين من جنسيات عربية وإسلامية لا يزيدون عن السبعة معلمين ، وبعد العمل في الفترة المسائية مدة لا تزيد عن الشهر انتقلت المدرسة للمبنى المستأجر الذي تعمل فيه مدرسة عقيل بن أبي طالب الابتدائية وفيه تغير اسم المدرسة إلى ثانوية فلسطين ، وقد أسهمت مع إدارة المدرسة في اختيار مسماها وتصميم شعارها الذي بقي معها إلى اليوم ، ويريد الله سبحانه وتعالى أن أتولى فيما بعد وكالة هذه المدرسة ثم إدارتها قبل أن أغادر وطني موفدًا لإدارة الأكاديمية السعودية في موسكو ، وكانت الأيام الأولى في التدريس شاقة لدوام الفترة المسائية والقيام بتدريس جميع المواد الاجتماعية وعلم الاجتماع وعلم النفس لقلة المعلمين وقلة عدد الفصول بالمدرسة لكنني أذكر أنني درست النصاب كاملا في السنة الأولى والثانية قبل أن تنتقل المدرسة إلى مبناها الجديد في حي مشرفة .
لقد كانت رغبتي ملحة في مواصلة الدراسات العليا رغم انشغالي بالتدريس وانشغالي مع أخوتي لمتابعة العمل في مشروعنا المشترك مما دفعني في العام التالي للتقديم للدراسات العليا في أكثر من جامعة وتم قبولي في جامعة الأزهر وفي جامعة طنطا لدراسة تخصص التاريخ كما تم قبولي في جامعة عين شمس لدراسة تخصص التربية ، وفي رحلتي الأولى إلى جمهورية مصر العربية كثير من المواقف والذكريات لعلي أعرج عليها في وقفات أخرى ، وقد نجحت محاولاتي المتعددة للتقديم للدراسات العليا بعد موافقة كلية التربية في جامعة أم القرى على انتظامي في مرحلة الماجستير مع مطلع العام الدراسي 1405هـ ، وبالفعل واصلت دراسة الماجستير في تخصص المناهج وطرق التدريس بها وفي تلك الفترة كنت أقوم بعملي في التدريس بكل إخلاص وتفان إضافة إلى مواصلة الدراسات العليا بجامعة أم القرى ، وكانت تلك الفترة من أثرى فترات حياتي نشاطًا وحيوية والحمد لهأ على توفيقه ، وقد أدركت فيما بعد أن الله قد أراد لي في كل أمري خيرًا حيث هيأ الله لي فرصة ولوج علوم جديدة إضافة إلى ما وفقني سبحانه وتعالى لولوجه في مرحلة الدراسة الجامعية فجمعت بين حسنيين بإذنه تعالى ، ولعلي في هذه الوقفة أوصي الشباب بعدم الاستسلام أمام المعوقات وبذل الجهد في طريق تحقيق الأحلام ولن تتحقق الأحلام بالتمني ولكن بالاتكال على الله تعالى وبالمجاهدة والصبر والتحمل واقتحام جميع الفرص المتاحة لبلوغ الهدف المأمول . والله الموفق والمستعان .،،،