الوقفة الثامنة عشرة : عمال ومساعدون فنيون
بعد تخرجي من المرحلة المتوسطة وعودتي إلى منطقة الباحة وإنهاء نقل ملفي الدراسي إلى المعهد العلمي فيها وبعد استقراري في قريتي التي نعمت مؤخرًا بالكهرباء نتيجة تأسيس شركة كهرباء محلية لبني جندب وبني بشير زودت قراها بالكهرباء ، ونشط الفنيين الكهربائيين آنذاك في أعمال تمديدات الكهرباء وتركيب المصابيح في المنازل .
وبرزت لنا نحن الفتيان مجموعة من فرص العمل المؤقت خلال إجازة الصيف في شركة الكهرباء ولدى بعض المقاولين الصغار لتنفيذ بعض المنشآت الصغيرة ، وكان لي صديق طفولة وصبا ألازمه ويلازمني غفر الله له ورحمه وأسكنه فسيح جناته عرض علي ذات يوم العمل معه بالأجر اليومي لدى مقاول صغير رست عليه عملية حفر بعض الآبار في بعض القرى ومنها بئر بحرة الواقعة في قطاع الصبخة شمال قريتي قرية الحكمان ، وكانت الأجرة اليومية للعاملين المشاركين في العمل آنذاك عشرة ريالات ، ومدة العمل من قبل طلوع الشمس إلى قبيل غروبها.
وقد ترددت أولا في الموافقة نظرًا لخطورة العمل ومشقته ، لكن صديقي محمد رحمه الله ما لبث أن أقنعني بالعمل وانطلقنا في اليوم التالي سوية نحو المشاركة في العمل ، وكان عملنا في بادئ الأمر يتوقف على تشغيل ماكينة رفع البرميل الذي تعبأ فيه الأحجار والأتربة من داخل البئر وتفريغه إلى جانب البئر ثم إعادته للعمال داخل البئر لتعبئته أخرى ، وهكذا ، وتكمن مشقة العمل من وجهة نظري آنذاك في الحذر عند رفع البرميل وفي سحبه خارج البئر وتفريغه، واستمر بنا الحال كذلك مدة لا تقل عن أسبوع ، ثم عرض علينا المقاول التدريب للعمل في الحفر داخل البئر بزيادة الأجرة لتصل إلى خمسة عشر ريالا نظرًا لمرض أحد العمال الأساسيين على ماكينة الحفر ، وبعد أن تحاورنا أنا وصديقي وافقنا على العرض وكانت التجربة الأولى في اختبار التحمل والقوة إذ كان لا بد لنا من التعامل مع ماكينة الحفر (الكمبريشن) وهي الأداة التي تحفر بها الصخور وتكسر وهي تعمل نتيجة لدفع الهواء عبر أنبوب مطاطي ثقيل موصول بها من ماكينة ضغط الهواء خارج البئر ، وهي ثقيلة الوزن وصوتها مزعج جدًا ومرهق في التثبيت والنقل ، وقد خضنا التجربة بالفعل وعملنا داخل البئر مع العمال الآخرين في الحفر وجمع الصخور المتكسرة والأتربة وتعبئتها في برميل الرفع ، وأذكر أننا عملنا مدة لا تقل عن الشهر مع ذلك المقاول في بئر بحرة وفي بئر بقرية القوارير لا تقل خطورة عن سابقتها ، حيث أن البئرين من الآبار القديمة المعاد تأهيلها بزيادة أعماقها بالحفر ، وصب جوانبها بالخرسانة ، وكانت هذه هي التجربة الأولى في العمل بالأجر اليومي.
وفي شركة كهرباء بني جندب وبني بشير الحديثة النشأة عملت وصديقي محمد غفر الله له بالأجر الشهري في أعمال تمديدات الضغط العالي بين القرى وكنت ممن يصعد في أعمدة التمديدات لتثبيت الأسلاك الكهربائية على عوازلها في الحوامل بأعلى الأعمدة ، وتعلمت الكثير من المهارات والتقنيات الكهربائية بمساعدة الفنيين العاملين معنا آنذاك ، وخضنا تجربة العمل في نفس الشركة في مساعدة الفنيين لتركيب العدادات للمنازل وأذكر أنني بلغت من الخبرة فيها أن كان الفني يعتمد علي في الكثير من عمليات التركيب بالإنابة عنه وقد نجحت في كل المحاولات والاختبارات التي كان يجريها علي لمعرفة مدى تمكني من مساعدته ، ولعل تلك الأيام تقف شاهدًا علينا نحن الصبية من ذلك الجيل بأننا كنا مكافحين لحوحين على طلب الخبرة والمغامرة في اكتسابها من منابعها ، وقد تأثرت بتلك المرحلة فعليًا فلا أذكر أنني طلبت الخدمة من فني كهربائي لإصلاح أي عطل يحدث في منزلنا وفي المنازل التي سكنتها بعد ذلك بالاستئجار أو التملك ، والحمد لله الذي هيأ لنا تلك التجارب للتعلم .
ولم تتوقف تجاربنا أنا وصديقي الحميم رحمه الله تعالى فقد خضنا تجربة المقاولات الصغيرة عندما ذهبنا للعمل في إجازة الصيف بتربة البقوم ، وكان الهدف من ذهابنا إليها هو العمل في بساتين النخيل للمشاركة في جني ثمرة التمر مقابل الأجر بالتمر ولكننا قد بكرنا الذهاب قبل موسم الحصاد وجني الثمار مما استدعى منا الأمر للبحث عن أعمال أخرى ، فبعد أن استأجرنا بيتًا عبارة عن غرفة من الطين مفتوحة على الفناء المسور بسعف النخيل ليس لها أبواب وفي طرفها عشة تستخدم كمطبخ وفي طرف الفناء صندقة – كوخ من الزنك والأخشاب – لها باب وقفل نستخدمها لحفظ الأشياء والمدخرات ، وبعد أن استقر بنا المقام بدأنا البحث عن أعمال نملك فيها خبرات سابقة وعرض علي أحدهم في رمادان – الحي الكبير في تربة البقوم – أن أعمل لديه في تنظيف بئر في مزرعته ، وبعد المثول على البئر عرضت عليه تنظيف البئر مقاولة أي بمبلغ مقطوع يدفع على دفعات ، ووافق على الشروط التي وافقنا عليها أنا وزميلي ، وكان لابد لنا من تشغيل عمال معنا بالأجر اليومي لإتمام المقاولة ، وبالفعل قمنا بعملية تنظيف البئر ، وشغلنا معنا خلال تلك العملية أكثر من عشرة عمال من المقيمين الأجانب وكان يلازمنا في عملية التنظيف عاملين منهم يوميًا ، وقد استغرقت منا المقاولة قرابة العشرة أيام وأذكر أن قيمة المقاولة كانت ألف وخمسمائة ريال ، أنفقنا منها لشراء الأدوات ما يقارب مائتا ريال وأعطينا العمال منها ما يقارب الستمائة ريال ، وبقي لي ولزميلي ما اقتسمناه عدلا ما يقارب الستمائة ريال وأنفقنا الباقي في الأغذية للعمال المشاركين معنا ، وقد شجعنا النجاح في المقاولة الأولى لتكرار التجربة في مقاولات أخرى صغيرة من نفس النوع وفي نفس الوادي ، فقد شاع خبر إخلاصنا في العمل وجودة عملنا لدى الكثيرين من أصحاب المزارع هناك ، ولعلي في وقفات أخرى أصف المقاولة الأكبر في تاريخ عملنا بالإجازة الصيفية والتي عقدنا عقودها في وادي الغريفين إلى الجنوب الشرقي من تربة البقوم ، وكان لنا فيها الكثير من الوقفات والطرائف والذكريات .
لقد كنا نربي ذواتنا بالشراكة مع أهلنا ومجتمعنا ، ونبحث عن الخبرات ونسعى لاكتسابها ، عملنا وأتقنا وأخلصنا النية وحققنا النتائج المرضية فكانت لنا دوافع قوية لمواصلة التجارب والمغامرات المعلمة ، فليت الجيل المعاصر والأجيال المستقبلة تدرك معنى العمل وقيمته ودوره في نماء الشخصية وتطورها وتأثيره في الاعتداد بالنفس بعد الله تبارك وتعالى وتحمل المسؤولية فيقبلون عليه عند استثمار أوقات إجازاتهم ففيه مدرسة أخلاق ومهارات متنوعة ، والله الموفق والمستعان . ،،،
مشالله عليك حفار ابار ومعلم تحت السدرة
ومهندس كهرباء لكن الاعمدة قوية وصعبة
الله يفتح عليك وعلى نشأتك الاخاذة بالفعل
تحياتي أخي
الله ينفع بهذه الوقفات لتكون دعماً للتعليم ومزيد من الرقي نتمناه لك
دكتورنا الفاضل
شكري وتقديري لقلمك المعطاء
ولك تحيتي