الرئيسية / مقالات / وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة 22

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة 22

الوقفة الثانية والعشرون : دموع معبرة في سوق السبت

شاهدت كغيري على قناة اليوتيوب بعض المشاهد التي تبرز بعضًا من مشاعر ود الحيوانات المتبادلة مع بني البشر ، رأيت الأسد الذي أقبل شجيًا ليعانق رفيق عمره ومربيه ، ورأيت النمر الذي انقض على مربيه ليقبله ويعانقه ورأيت الناقة التي تدافع عن ذلك الطفل الصغير لأنها قامت على رضاعته صغيرًا ، ورأيت الكلب الذي يطلق نباحه ويتصدى بدفاعه عن ذلك الطفل الصغير الذي تعرض لعقاب أمه ، وفي كل مرة من تلك المرات التي أشاهد فيها مشهدًا من تلك المشاهد وما شابهها أتذكر ذلك المشهد المؤلم لمشاعري في سوق السبت والذي أحزنني كثيرًا برفقة صاحبي المخلص غفر الله له ورحمه .
في عام 1397هـ خلص والدي إلى قراره بنقل أسرتي من منطقة الباحة إلى مدينة الطائف ، مما تطلب منا بيع الحيوانات المتوافرة لدينا آنذاك ، ولا أذكر كيف تم بيع بقرتنا والعجل اللذان كانت أمي رحمها الله تعالى تحتفي بهما وترعاهما في منزلنا ، لكنني أذكر المهمة التي كلفت بها لبيع حمارتنا البيضاء في سوق السبت بمدينة المندق ، حيث رافقني في رحلتي تلك صديق عمري محمد أبو فادي رحمه الله ، فاخترنا الطريق الذي اعتدنا أن نسلكه راجلين إلى معداه والجنش والأودية القريبة منها ولكننا هذه المرة كنا راكبين الحمارة مردفين تارة ومترجل أحدنا لقيادة الحمارة في الطريق الوعرة عبر الأودية والجبال أحيانًا أخرى ومترجلين كلانا في بعض الأحيان يمسك أحدنا بزمام الحمارة لنعبر بها الطريق إلى مدينة المندق ، وكان الهدف الذي انطلقنا من أجل تحقيقه هو بيع الحمارة في سوق السبت ، وكانت هذه الرحلة الأولى إلى سوق السبت راجلين وراكبين دابة ، فقد عرفت سوق السبت عندما كنت أرافق والدي في إجازات الصيف عندما كان يعمل في البريد بمدينة المندق ، وقد تعرفت على الطريق إلى المندق خلال تلك الرحلات الصيفية مع والدي والتي كنا نترجل فيها بعض الطريق ونركب في السيارات القادمة منها إلى قرى محافظة القرى في طرق وعرة وغير معبدة تقطعها السيول والأودية الجارية في أحيان كثيرة .
انطلقنا من القرية مبكرين جدًا ، وأذكر أن بداية رحلتنا كانت على ضوء القمر ، وكنا نرفه عن أنفسنا بالأناشيد والأغاني التي كنا نرددها في الطريق الموصل إلى أودية الحكمان الغربية والحمارة لم تكن بحاجتنا لقيادتها في الطريق لتكرار ارتيادها له ، وكنا نركب مردفين في الطرق السهلة ويترجل أحدنا بالتناوب في الطرق الوعرة ونترجل كلانا في الطرق الأكثر وعورة ، وسلكنا طريق معداه ثم الجنش ثم تربة ثم مشنية وطريق العراة الذي ينتهي بقرية العنق بالقرب من المندق ثم واصلنا السير حتى بلغنا سوق السبت بعد أربع أو خمس ساعات تقريبًا ، وكان الوقت ضحى والسوق تملؤه عروض البائعين وإلى الجنوب من السوق توجد ساحة لبيع الحيوانات أكثرها الغنم وفيها البقر وقليل جدًا من الحمير ، عرضت بيع الحمارة على الدلال الذي يشرف على سوق بيع الأنعام والدواب وفقًا لتوصية والدي وفقه الله وأحسن خاتمته، وبدأ الدلال بإعلان البيع وتحديد القيمة الدنيا وطلب المزايدة من الراغبين .
وأذكر أنني كنت أتابع المزايدة وعيناي لم تنفكان أراقب حمارتنا حتى لا تنفلت من الدلال فتهرب إلى الأودية القريبة من السوق ، وأثناء مراقبتي لها رأيت دموعًا تنهمر من عينيها ولم يكن الطقس مسببًا لتلك الحالة التي رأيتها عليها وتعجبت بادئ الأمر وأشرت إلى صاحبي بما رأيت ، وقال : لعلها تبكي لعلمها بالبيع !! ربما قال ذلك طرافة لكنني أذكر أنه بعد أن تمت عملية البيع ولم يكن السعر عاليًا حيث قل الطلب آنذاك على الحمير إلا من سكان المناطق الوعرة ، وسألني الدلال : هل تحتاج الحلس يقصد البردعة أم يأخذه المشتري ؟، فأجبته : بالموافقة على أن يأخذه المشتري ، انطلق المشتري يقود الحمارة وهي تعانده وتلتفت إلى حيث كنا نجلس أنا وصاحبي في طرف سوق البهائم ، وتحاول التفلت من زمامها والعودة إلينا ، والرجل الذي اشتراها ينهرها لتستمر في طاعته ، وفجأة خطفت زمامها من يد المشتري وعادت أدراجها إلى حيث كنا جالسين ، وأرخت إلي برأسها ورأيت دموعها تنهمر بالفعل فضممت رأسها وحزنت جدًا كما حزن معي صاحبي الذي فسر دموعها في هذه المرة تفسيرًا منطقيًا ، وعاد المشتري ليرى ذلك المشهد الذي تعجب له وزادت رغبته في امتلاك تلك الحمارة ، فطلب مني أن أصاحبه وزميلي إلى منزله الواقع في قرية قريبة من السوق .
وافقنا وزميلي على مصاحبته إلى قرية النصباء حيث مفترق الطريق الذي يمكننا من خلاله الركوب في إحدى السيارات العائدة إلى محافظة القرى ، وبالفعل رافقناه بها إلى المفرق ، وانطلق راكبًا عليها في الطريق إلى قريته ، وكانت تسير وتتلفت نحونا إلى أن غاب بها المشتري خلف التلال والأشجار ، وظل ذلك الموقف في ذاكرتي وذاكرة صاحبي لسنوات نحزن حقيقة عندما نتحدث عنه معًا أو مع الآخرين ممن لا نتوقع استهزائهم بنا وبقصتنا الحقيقية مع مشاعر دابة عبرت بما لا يدع مجالا للشك عن فقد ما أحبت نتيجة لحسن الرعاية التي كانت تلقاها في منزلنا وعدم إيذائها أو تحميلها مالا تطيق .
لقد استبدل أهالي قريتي والقرى الأخرى بمنطقة الباحة سيارات (الهايلكس) والسيارات الأخرى من نوعها بالحمير والدواب التي انقرضت تدريجيًا من القرى حتى لم يتبق منها شيء غير السائبة في الجبال والأودية من غير المرغوب في اقتنائها واستخدامها ، وهكذا هي تأثيرات الحضارة على سلوك الإنسان ، فالحمير كانت تستخدم حتى في بعض المدن لجر العربات وأذكر أنه كان في حارة الشرقية حيث كنت أسكن (عربجي ) – مصطلح يطلق على صاحب حوش الحمير والعربات – يعتني بالحمير ويؤجر العربات التي تجرها الحمير لنقل البضائع ، وبموته رحمه الله تعالى تخلص ورثته من الحمير والعربات ، وقد تم الاستغناء كليًا عن الحمير بعد ذلك بظهور بدائلها من الناقلات الميكانيكية والسيارات، ولعلي كلما شاهدت مشهدًا في اليوتيوب لحيوانات تظهر مشاعر الود لبني البشر لا أنفك أذكر ذلك الموقف في سوق السبت ، وربما كان ذلك الموقف من المحفزات لأصدق المواقف المشابهة لها مما يحكى أو يصور ، فللحيوانات مشاعر لا يعلمها إلا الله تعالى ، كما أن الدراسات العلمية أثبتت ذلك بالفعل ، وأثبتت أن للنباتات مشاعر أيضًا ، والله أعلم بخلقه سبحانه ، وهو الموفق والمستعان .،،، 

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

التدبر والتفكر والتذكر والتعقل عبادات مأجورة

بسم الله الرحمن الارحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه ...