الوقفة السابعة : المركز الثاني والجائزة قلم باركر
فيما بين العامين الهجريين 1391-1392هـ بينما كنت في الصفين الخامس والسادس الابتدائي كانت المدارس الابتدائية التابعة لمكتب الإشراف على التعليم ببني محمد في قريش بمحافظة القرى اليوم تتنافس على مجموعة من الأنشطة المدرسية الرياضية والفنية والثقافية ، وأذكر فيما احتفظت به ذاكرتي عن تلك الحقبة بأنني كنت من الطلاب المشاركين في جميع الأنشطة المدرسية المتاحة آنذاك في التربية الفنية من خلال الرسم والتشكيل وإعداد النماذج ، وفي الرياضة المتمثلة في كرة القدم وكنت واحدًا من أفراد منتخب المدرسة ، وفي الأنشطة المسرحية أيضًا وكنت واحدًا من فرقة المسرح بالمدرسة .
وكانت إدارة مدرستنا الابتدائية تحرص كثيرًا على المشاركة في المسابقات السنوية التي اختير مكان التنافس عليها بمدرسة الأطاولة الابتدائية لتوافر المقومات اللازمة آنذاك وفق مرئيات لجنة التحكيم لهذه المنافسات ، في عام 1392هـ جهزت قطعة الأرض التي كان نادي زهران الرياضي وأبناء الأطاولة الكبار يستخدمونها ملعبًا لكرة القدم لإقامة المهرجان الرياضي السنوي لمنافسات المدارس الرياضية ، وكان في طرف قطعة الأرض – الركيب – بئر غطيت بشبكة حديدية وأخرى من نوع شبكة كرة الطائرة أو الشبكة التي تستخدم خلف مرمى كرة القدم ، وجيء بمكبرات الصوت اليدوية التي كانت تعمل بالبطاريات وتأخذ شكل مكبرات الصوت التي توضع على المساجد يحملها المقدم والمعلق الرياضي ، وشغلت الأذاعة المتنقلة التي تعمل على الكهرباء حيث وفر المنظمون مولدًا للكهرباء إلى جوار مكان المهرجان وشغل المسجل قريبًا من مكرفونات الإذاعة ليصدح بأغنيات محمد عبده وبعض أغاني طارق عبدالحكيم وطلال مداح المشهورة آنذاك ، ولا أذكر للأسف من تلك الأغاني شيئًا لكن ذلك ما كان يحدث بالفعل ، وجاءت الفرق المشاركة لأداء العرض للمهرجان وكنت واحدًا من المشاركين في ذلك العرض بعد أن قمنا بتدريبات قبلية لمدة يومين أو ثلاثة تقريبًا قبل المهرجان ، ويشاء الله تعالى أن تضيع جزمتي الرياضية البيضاء قبل بدء المهرجان بدقائق مما أفزعني من عقاب المعلم وإدارة المدرسة والحمد لله أن المعلم كان معه في حقيبته جزم جديدة أخرى أختار لي منها الأقرب إلى مقاسي ولبستها دون أن أعطي ملحوظاتي عليها خوفًا ورهبًا ، لبستها وهي ضيقة جدًا تكاد أن تعصر أصابع أرجلي داخلها بدون شراب حيث قد ضاع الشراب مع الجزمة الضائعة ، ونزلت مع فريق مدرستي للعرض ، وما كاد أن ينتهي العرض إلا وعيناي تكاد تفيض دمعًا من ضغط الجزمة على أقدامي ، وجاءت المشكلة الكبرى كما كنت أتصورها ، المباراة الأولى بعد العرض بين مدرسة الحكمان الابتدائية ومدرسة المثيلة الابتدائية مما يعني ضرورة استمرار صبري على تلك الجزمة الضيقة طيلة المباراة وقد كان مركزي في اللعب قلب هجوم لقدرتي على تسديد تمريرات الزملاء على المرمى آنذاك ، فهمست لمعلم التربية الرياضية مدرب فريقنا متسائلا : هل يمكن أن ألعب يا أستاذ حافيًا بدون جزمة ، لا أستطع تحمل ضيق هذه الجزمة ، فرد علي ناهرًا : لا طبعًا هذا شرط في المسابقات ، قلت له ولكن الملعب ترابي ، والأحسن لي أن ألعب حافيًا ، قال : قلت لك لا ، سأبحث لك عن جزمة أخرى ، أخلع هذه مشيرًا إلى الجزمة الضيقة التي أرهقتني ، فخلعتها مسرعًا ، وبين أنا كذلك إذا بأحد طلاب مدرستنا يحمل جزمتي الأولى وشرابي يقدمها إلى مدربنا المعلم قائلا : لقيتها في السند – والسند هو الجزء المجاور للبناء الفاصل بين قطع الأراضي والتي تعلوها – رأيتها فصرخت هذه حقتي – بمعنى ملكي أي جزمتي – قال المعلم : الحمد لله لقيناها أخيرًا ألبسها يابطل وأريدك بها أن تسجل ثلاثة أهداف ، وأسرعت بلبسها والاصطفاف مع فريقي لتحية الجمهور الذي انتشر في الجبل وعلى العرق المحيطة بالملعب من الجهتين الشمالية والجنوبية – والعرق بضم العين وضم الراء جمع تكسير لعراق والعراق هو البناء الفاصل بين قطع الأراضي الزراعية والتي تعلوها – انتظرنا الفريق الآخر مدة وجيزة لينزل إلى أرض الملعب ولم ينزل فاعتبر منسحبًا ، وأشاروا علينا بالخروج من الملعب لفوزنا بانسحاب الفريق الآخر ، لم تستمر فرحتنا كثيرًا بفوزنا فقد هزمنا بعدها من مدرسة الأطاولة ثم من مدرسة القسمة ، لكننا حققنا فوزًا مثاليًا في المهرجان الفني والذي أقيم في مدرسة الأطاولة الابتدائية حيث فازت مدرستنا بالمركز الثاني بلوحات الرسم التي كانت واحدة منها تحمل اسمي وبنموذج للحرم المكي الشريف كنت واحدًا ممن شارك في إنجازه ، وفي المسرح حيث كنت واحدًا من فريق المسرح لمدرستي فزنا بالمركز الثاني كذلك ، حيث نصب مسرح التنافس أمام مدرسة الأطاولة وحضر المنافسات الأخيرة في التصفيات مدير التعليم آنذاك في الباحة الأستاذ فهد بن جابر الحارثي ، وقدمت مدرستنا تمثيلية عن فلسطين وكنت الفلسطيني الذي فقد والديه في رحلة النزوح مما دفعه إلى حمل السلاح مبكرًا لمحاربة اليهود ، وكانت بندقيتي قطعة خشبية منحوته على هيئة بندقية وصفق الجمهور كثيرًا لحسن أدائي للمشهد ، وفي ختام عرض المسرحيات جاء وقت توزيع الكؤوس والدروع والجوائز للمدارس والطلاب المشاركين ، حصلت مدرسة الحكمان الابتدائية يومها على دروع المركز الثاني في النشاط الفني والمسرحي بينما أعلن اسمي ضمن أسماء الطلاب الفائزين بالجوائز التي يقدمها مدير التعليم للطلاب الفائزين ، تقدمت إلى المنصة التي يقف خلفها مدير التعليم فقدم لي بعد أن صافحني علبة مغلقة ، فأخذتها ونزلت تاركًا المنصة لصعود طالب فائز آخر عليها ، اتجهت إلى المعلم المشرف وكان بانتظاري إلى جواره أخي الأكبر حيث رافقني خلال ذلك اليوم كله ، وأخذ العلبة وفتحها مستبشرًا قائلاً مبروك مبروك قلم باركر ، وقد كان القلم الباركر آنذاك تحفة الهدايا المقدمة للفائزين ، الملفت للانتباه أن هذا القلم استمر معي حتى عملت مدرسًا بعد التخرج من الجامعة وفقدته بعد ذلك أثناء تنقلاتي من شقة مستأجرة إلى أخرى ، وهو قلم يعبأ بالحبر المسال عن طريق أنبوب شفاط بداخله وله ريشة مثالية وخطه يندر أن تجد مثله في غيره على الرغم من ظهور مجموعة من الماركات المصنوعة بعد ذلك لكنه يظل القلم الأبرز من وجهة نظري ، ويكفي أنه كان الجائزة الأولى التي حصلت عليها بتوفيق الله تعالى نظير جهد وتميز أظهرته في منافسات عامة ، ويكفي أنه استمر يذكرني بلحظات التميز التي مررت بها في صغري وتقدير المشرفين والمعلمين وإدارة التعليم آنذاك ، لقد كانت تلك الأيام بما تحمله من مواقف وأحداث مدرسة أخرى تعلمنا فيها وتعلمنا منها التنافس الشريف والغيرة على قريتنا ومدرستنا والعمل الجماعي والسمع والطاعة للمعلمين والمشرفين الحريصين على التربية الصالحة للنشء ، واحترام الآخرين وتقدير المسؤولية ، ولعلي في وقفات أخرى مما تبقى في ذاكرتي أذكر أثر هذه المنافسات على نشاطاتنا نحن الصغار داخل قريتنا خارج وقت الدراسة ،، والله الموفق والمستعان .