الوقفة التاسعة : رحلة إلى غدير كردم والحفاة لتحطيم الأسطورة
في الفترة التي عشتها في كنف قريتي في مرحلة ما قبل دخولي المدرسة وفي سنوات المرحلة الابتدائية من الله تبارك وتعالى على قريتي وما حولها من قرى الحجاز في جبال السروات بالكثير من الفضل والنعمة حيث الأمطار العزيرة في جميع فصول العام وديمومتها في فصلي الشتاء والخريف حتى غدت الأرض والجبال والأودية مخضرة ولا تكاد ترى شبرًا من الأرض دون غطاء أخضر يزينها حتى العرق – جمع عراق – وهي الجدران الفاصلة بين القطع الزراعية غطتها النباتات الخضراء وتفجرت الأرض ينابيع من كل سند – والسند هو الجزء المتاخم للعراق أو الجدار الفاصل من القطع الزراعية .
وكان عدد النجول – جمع نجل ويطلق على النبع المتفجر من الصخر أو من تحت الجدار الفاصل بين القطع الزراعية – يزيد في القرية وأحميتها في بعض الأحيان عن الثلاثين والأربعين نجلا ، مما يعيق في كثير من الأحيان الزراعة حيث تغرق الكثير من القطع الزراعية في الماء المتفجر من داخل الأرض ، والكثير من الآبار المتوافرة في أودية القرية تمتلئ بالمياه وتفيض بعضها على الأراضي الزراعية حولها ، ولا تكاد ترى شجرًا يابسًا حتى تلك الأشجار الجبلية مثل الطلح والعرعر ، وأودية القرية الواقعة في الجهة الغربية منها تجري المياه في أوديتها باستمرار مشكلة سلسلة من الشلالات والغدران يزيد منسوب المياه فيها بزيادة الأمطار وغزارتها ، وأذكر أن الصغار من جيلي كانوا يتعلمون السباحة في بعض تلك الغدران وخاصة غدير العلمة بضم العين وفتح الميم وغدير الجمل ، بينما صغار أهل القرية في الوادي أو في القرية السفلى يتعلمون السباحة في غدران مماثلة في الوادي الذي تصب مياهه في سد الخضراء – وهو سد يعلو القطع الزراعية التي يملكها أخوالي آل زنان بني في وقت سابق بجهود محلية ويشبه في بنائه بناء السدود القديمة المتوافرة في منطقة الطائف كسد السملقي – بضم السين وتشديد اللام المضمومة – بوادي ثمالة وسد معاوية في وادي المثناة بالطائف ونحوها من السدود التاريخية القديمة والتي استخدمت الأحجار والجص في بنائها، وأذكر جيدًا أن أغلب القطع الزراعية في وادي ربية – بفتح الراء وتشديد الياء – كانت ممتلئة بالمياه المتدفقة من الينابيع ، وتبدو في أعيننا كبحار متجاورة ، ومياه تلك الأودية كوادي ربية ووادي مارد ووادي المعكس ووادي الفقهاء ووادي السد تتجه جميعها نحو وادي الحازم الذي تتسلسل فيه الغدران والشلالات ، ويستمر جريان المياه في الأودية بين الجبال المتاخمة كجبل العامر وجبل الأعشى وجبل الرصافة وجبل العقاب وجبل الحمار لتصب في وادي معداة والحفاة وتواصل سيرها نحو وادي الجنش – بضم الجيم والنون – الذي يقام فيه اليوم سد الجنش المعاصر ضمن سلسلة السدود التي بنيت في المنطقة ، ويقع غدير كردم الذي كنا نخافه نحن الصغار في وادي معداة الذي يتوسط حمى قرية الحكمان في الجهة الغربية منها ، وكنا نخافه فعلا لما أثير حوله من أساطير متوارثة ومصطنعة من الأهالي لتخويف الصغار من المغامرة بالعوم فيه لكبره وعمق مياهه وخاصة بعد حادثة غرق أحد أبناء القرية فيه ووفاته ، وكنا بسماع تلك الأساطير نظن بأن الجن تحيط به متربصة بالصغار لتغرقهم في مياهه العميقة ، ولذلك لا يتجرأ على العوم فيه إلا الكبار الذين بلغو من الإدراك ما يجعلهم يكذبون تلك الأساطير ، وقد اعتاد الفتيان الكبار من أبناء قريتي على تنظيم الرحلات إلى تلك الأودية والتمتع بالعوم واللهو في غدرانها المتعددة وقضاء يوم كامل بين جنباتها حيث أصوات الشلالات وانسياب المياه في الأودية وأصوات شقشقة العصافير وتغريدات الطيور تملاء سكون الأودية مضفية أجواء من المتعة لمرتاديها من الرحالة ، فضلا عن غزارة الأشجار المتنوعة وخاصة تلك التي تنمو في بطون الأودية حيث وفرة المياه واستمرار جريانها ، وفي يوم من الأيام اجتمعت مع بعض أقراني الذين كنت معهم نقوم بتنظيم المهرجانات لأبناء القرية من عمرنا حينذاك وبدأنا التخطيط لرحلة إلى وادي معداه مستهدفين تكسير أسطورة العوم في غدير كردم بعد أن أتقنا العوم في الغدران الصغيرة كغدير العلمة وغدير الجمل وغدير الغربة مقلدين إخواننا وأبناء القرية الكبار الذين اعتادوا على تنظيم مثل تلك الرحلات ، وبعد الاتفاق على المغامرة وتحديد متطلبات الرحلة ورسم خريطة الذهاب والإياب وزمنها وبعد توزيع المهام وتقسيم المتطلبات من الأواني والأمتعة والمأكولات على المشاركين في الرحلة بيتنا النية وعقدنا العزم متوكلين على الله لتنفيذ ما اتفقنا عليه ، وفي فجر اليوم التالي تجمع الفريق وانطلقنا نحو وادي معداه متخذين طريق وادي ربية ثم وادي مارد العسير جدًا هدفًا للوصول من خلالها إلى وادي معداه حيث يتبسم فيه غدير كردم مملوءًا بالمياه فائضًا في مجرى الوادي بعده في اتجاه وادي الحفاة ، كنا نسرع الخطى حينًا ونبطي حينًا آخر فرحين بتلك المغامرة الأولى لتنفيذ رحلة لم ينفذها قبلا إلا الكبار من أبناء القرية ، وخلال مرورنا بالأودية كنا نقتطف بعض الثمار لأشجار التوت وأشجار الشثن التي تنتج ثمرات تشبه الكرز بلون أسود عند نضجها لكنها أصغر حجمًا ونلتقط بعض الأزهار العطرية التي تضفي رائحة زكية على الشاهي مثل الحبق نعناع الوادي والصخبرة -وهي نبتة عطرية جبلية تبنت في أسفل الحشائش الجبلية – وما أن بلغنا لجة الوادي الذي فيه الغدير الأسطورة حتى بدأنا نشد من عزم بعضنا البعض لرفض الأسطورة وتكذيبها ، فوضعنا متاعنا في مكان تم اختياره بالإجماع بين شجر العرعر في الجزء المطل من الجبل على الغدير ، وبدأنا اللهو وقد تفرقت الغيوم في السماء وأطلت علينا الشمس في وقت الصيف تمنح الدفيء وتنشر النور في أنحاء المكان ، كنت ممن كلف بإعداد طعام الغداء وحراسة الأمتعة مع قلتها – الحلة والصحن وبراد الشاهي والفناجيل والسكين ودجاجة ذبحت ونتف ريشها في منزل أحد الأصدقاء من أعضاء الرحلة وقليل من الأرز – وهذا يعني بقائي إلى جوار الغدير الأسطورة أنا ورفيقي في مهمة الحراسة وإعداد الغذاء ، انطلق الزملاء نحو وادي الحفاة قبل المغامرة بالعوم في الغدير بينما أنا ورفيقي قررنا البدء بخوض المغامرة بالعوم في الغدير وفعلا قمنا بتحطيم الأسطورة ودخلنا للعوم في الغدير وما أن قدم إلينا بقية الرفاق ورأونا نعوم دون خوف أو وجل حتى تسابقوا في خلع ملابسهم والقفز معنا في الغدير ، وقضينا يومًا ممتعًا متنقلين بين جنبات وادي الحفاة إلى أن بلغنا قريبًا من غدير الشلال وهو آخر غدير كبير في حمى القرية قبل وادي الجنش ، حطمنا الأسطورة لكننا مع رؤيتنا للشلال والغدير الأكبر في الوادي عقدنا العزم على تكرار القيام بمغامرة رحلة جديدة يكون هدفها غدير الشلال ، أذكر بأننا في تلك الرحلة والتي بقي في ذاكرتي الكثير من مشاهدها تعلمنا التخطيط والتنظيم وبعض مهارات القيادة وتدربنا فعليًا على التعاون والتكافل والتشاور واحترام الآراء وتعلمنا ما هو مهم بالنسبة لنا آنذاك وهو الإصرار على كسر حاجز الخوف من المغامرات والإصرار على تكذيب الأساطير بالتجربة وإثبات البرهان ، نعم كنا صغارًا في السن لكننا كنا نحاكي سلوك الكبار في كل مسلك ونحلم بالتميز ونحققه بالفعل نتيجة للإصرار والعزم والتوكل على الله ، ما أجمل تلك الذكريات التي علقت في الذاكرة ولا أزال أذكر تفاصيلها حتى هذه اللحظة لتأثيرها فينا وفي سلوكياتنا ومشاعرنا وبقاء آثارها لدى الغالبية من جيلي إلى اليوم . والله الموفق والمستعان ,,,,
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سعادة الدكتور
مقال جميل لأيام جميلة مضت ، وأنا أقرأ مقالتك وكأن أمامي قريتنا الحبيبة وكأني فعلا ارى بعض نجولها المتفرقة ، ويوما من أيام وجودي بالقرية رأيت ما ذكرته أنت بشأن غزارة المياه في الابار وأشهد أني رايت أحد الابار القريبة جدا من مزارعنا بالقرية وقد أمتلئت عن بكرة أبيها والماء ينساب الى الاراضي الزراعية المجاورة.
منظر ما زلت أذكره الى اليوم.
سعادة الدكتور
لقد ذكرتني بأيام جميلة قضيتها مع أخي الاكبر أحمد رحمه الله ، حيث كان سكن الاسرة بمدينة الباحة ، لكن أخي بصفة عمله مديرا لمكتب الاشراف والتعليم بالاطاولة فسكن القرية لفترة من الزمن وكنت أجلس عنده وعند عمي سعيد رحمه الله.
مقال جميل كجمال روح وخلق كاتبه.
خالص التحية