عندما تعطل محكمة العقل !!
لقد خلق الله تبارك وتعالى الإنسان آية من الآيات المعجزة في خلقه ، ودعا الإنسان نفسه للتدبر في نفسه وتكوينها وخلقه وتعقيداته ، ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ولعل كل منا لو سؤل عن نفسه لما أجاب بمعرفة يقينية إلا عن القليل عما تتصف به نفسه من صفات الإعجاز الخلقي ، ولنتساءل لإثبات ذلك عن الآتي : كم من خلية لها صفة الحياة في جسم كل منا ؟ كم من عضو يعمل بإذن الله تعالى بأوامر العقل بالإرادة منا ؟ وكم عضو يعمل بدون إرادة منا وهو مسير بفطرته وخلقه إلى أجله ومن ثم إلى أجلنا ؟ كم من حي في أجسامنا يولد يوميًا ؟، وكم من ميت يموت فينا كل ساعة بل ربما كل دقيقة ؟ كم من أمة تعيش في أجسامنا من الأحياء المنظمة والمتفاهمة والمنسقة ؟ كم من جزء حي يتلقى أمر عمله منا فينا ؟ وكم من جزء لا نعلم متى يعمل وكيف يعمل فينا ؟ إننا وإن تفحصنا كثيرًا بهدف العلم سنقف على حقيقة أننا لسنا كما نظن واحد في الجسم الواحد بل أمة من الكائنات والمخلوقات في جسم الواحد منا ، ولهذا فالأصح في نظري لغويًا أن نقول للمرء أنتم وليس أنت بواقع العلم اليقيني بأنه أمم في واحد ، تبارك من خلقه على هذا النحو .
وقد ميز الله تبارك وتعالى خلق الإنسان عن غيره من المخلوقات بإضافة صفة التعقل والتدبر له من خلال آله العقل العظيمة ، وهي الحكومة والمحكمة الدائمة في جسم الإنسان ، تضع التشريعات وتضع المعايير والموازين للأشياء صفاتها ومقاديرها وأبعادها وطاقاتها وأعمالها ، وتصدر الأحكام المتوالية على الأشياء من خلال رسلها من الحواس المتنوعة في أجسامنا ، كما تعطي أوامرها للعمل إلى غالبية الأعضاء بعد تكون الإرادة فيها من التصور والحكم ، وقد جعل الله في الإنسان خلق ليس له مكان محدد في عضو من أعضاء الإنسان بل هو في كل الأعضاء والخلايا والتكوين الإنساني يعصى على العقل أحيانًا ولا يلتزم بتشريعاته وتصوراته ومعاييره وأحكامه ، متحد صريح للعقل ، وهذا الخلق هو النفس حيث تقع محكمتها في ذاتها فتصبح لوامة أو مطمئنة أو أمارة بالسوء ، وسبحان من خلق فأبدع الخلق لحكمة يعلمها يقينيًا ، والقضية المحيرة أو الإشكالية تتكون عندما تشذ النفس عن العقل في المنهج والغاية ، وعندما تتعارض معايير كل منهما وينشأ الجدل الفكري والمنهجي بين محكمتين في أجسامنا ، قد تفضي الغلبة أحيانًا إلى أحدهما ، وينشأ في الأخر حين الغلبة عمل مستمر لبناء خطط التميز وأسباب التغلب على الآخر، كل ذلك والعمل في كل منهما قد يتم بدون تصرف منا وإنما بتوجيه من الحميد العليم أو بتوجيه بإذنه تعالى من خلق آخر من مخلوقاته تكون بمثابة المتغيرات المؤثرة ومنها الأنبياء والدعاة والموجهين والعلم والتعلم ونتائج التجريب والإحساس بالقبول أو الرفض والتربية وتنوعاتها وفي الجانب المقابل من التأثير السلبي يتم التوجيه من الهوى والشيطان والشهوات والبيئات المحيطة والغاوين بتنوع خلقهم وأشكالهم ، ولا حافظ في كل ذلك إلا الله تبارك وتعالى ، ولا يستطيع أحد منا مهما بلغ من عصمة نفسه عدى الأنبياء أن يدعي أنه قادر على تسييد محكمة عقله على محكمة نفسه في كل الأحيان ، ولا يستطيع أحد منا أن يدرك يقينيًا ما يتم من حرب ضروس بين المحكمتين في كل الأوقات ، الأمر مدبر من مدبر عظيم ، تحدى في الخلق وضرب مثلا للتحدي بالذباب لما يعلمه من السر العظيم في خلقه قائلا تعالى : ” يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. (سورة الحج آية 73)
والحقيقة التي يجب أن يعلمها الإنسان أنه عندما تتعطل محكمة العقل فيه فإن محكمة النفس تنشط وتستأثر بالتوجيه وفق معاييرها ونظمها وأحكامها ، والعكس صحيح ، وقليل ما يتم الوفاق بين المحكمتين في العمل المتوازن إلا أن يشاء الله ، ولهذا تأتي نتائج الفعل في اتجاه نوع الحكم والمحكمة فإما خير وبر وثواب ، وإما وزر وشر وآثام ، ولا أظن من المنطق أن نقول أن العقل يأمر بالإثم والفحشاء ، أو أن ندعي بأن النفس غير اللوامة توجه إلى الخير والبر ، إن الأمر يهدأ بين المحكمتين عندما تتقابل مصالح النفس اللوامة مع العقل وهذا لا يحدث في العادة إلا عند الصلاح التام بإذن الله وعندما يتم توجيه العقل بفعل العلم وتوجيه النفس بفعل المردود من السعادة والراحة لها ، فسبحان الله المتصرف بمحاكمنا في ذواتنا ، ( يهدي من يشاء ويضل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير ).
والسؤال الذي نشأت عنه هذه المقالة يتمثل في محكمة العقل التي ميز الله بها الإنسان ليتدبر ويتعقل ويتصرف في توجيه معظم الأمم التي تعيش في جسم الإنسان من الكائنات والخلايا الحسية ، عندما يلجأ الإنسان نفسه إلى تعطيله عمدًا بفعل الجهل وتغليب محكمة النفس ، باستخدام المغيبات الكيميائية كالمسكرات والمخدرات ونحوها أو باستخدام مغيبات الشهوة والإشباع ، فما الذي يحدث من نتائج السلوك الموجه من المحكمة الغالبة ؟
إن علماء الدين وبعض علماء الفلسفة أغرق بعض منهم في تعريف النفس وتصنيفها وكيفية عملها وتأثيرها ، وفي رأيي المتواضع أن كل ما تم تناوله في هذا المجال لا يعدو تخريصًا وافتراضًا فالسر العظيم لها لا يملكه إلا الله تبارك وتعالى ، وقد خرص المشركون في ذلك وأرادو أن يختبروا علم رسول الله وصدقه بسؤالهم إياه عن الروح ؟ فجاءت الإجابة الشافية الكافية في وحي الله المنزه ( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) والذين يفرقون بين الروح والنفس لا يدركون أبعاد ما يحتويه خلق الإنسان وتعقيداته الكبيرة ، وحسبنا في العلم ببعضها وأعمالها ما ضمنه العليم في كتابه الكريم والذي استأثر بكل العلم وبأسرار الروح والنفس في علمه المحيط ، وعلينا إن أردنا النجاة بالفعل أن نعمل محكمة العقل ما تمكنا من ذلك بإذن الخالق، وأن نكبح جماح النفس وتعطيل محكمتها إذا أتت على أمر متعارض مع معايير العقل ، وأدعو الله تبارك وتعالى أن يلهمنا الرشد والتعقل وتغليب العقل على النفس إنه القادر على ذلك وحده ، وأن يجنبنا المؤثرات على النفس الأمارة بالسوء ما شاء وكيفما يشاء ، والله الموفق ،،،
نشرت هذه المقالة في صحيفة جندب الإليكترونية