الرئيسية / مقالات / سلسلة استشرف معي المستقبل ، (3) الأسرة السعودية وأدوارها في المستقبل

سلسلة استشرف معي المستقبل ، (3) الأسرة السعودية وأدوارها في المستقبل

(3) : الأسرة السعودية وأدوارها في المستقبل

 

يتفق علماء الإجتماع على أن الأسرة هي نوات المجتمعات والشعوب وهي من العوامل الرئيسة المؤثرة في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمعات والمؤثر المباشر في الاتجاهات والسلوكات الإنسانية للأفراد والمجتمعات ونوع النشاطات السكانية وأساليب الإدارة والنظم والاقتصاد وغيرها مما يشكل مقومات الحضارة الإنسانية عبر التأريخ ، وقد عرفها عالم الإجتماع المشهور أوكست مونت وهو من العلماء الأوائل في مجال علم الاجتماع، حيث أوضح أن الأسرة هي : “الخلية الأولى في جسم المجتمع وأنها النقطة الأولى التي يبدأ منها التطور وأنها الوسط الطبيعي الاجتماعي الذي ترعرع فيه الفرد، وهي تعتبر نظام أساسي وعام يعتمد على وجودها بقاء المجتمع، فهي تمده بالأعضاء الجدد، وتقوم بتنشئتهم وإعدادهم للقيام بأدوارهم في النظم الأخرى للمجتمع، وإقامة أسر جديدة خاصة بهم، والأسرة أكثر الجماعات أهمية، وهي الجماعة الأولى التي تستقبل الطفل وتحافظ عليه خلال سنواته الأولى لتكوين شخصيته ” .

وقد أقام الإسلام نظام الأسرة على أسس سليمة تتفق مع ضرورة الحياة وتتفق مع حاجات الناس وسلوكاتهم، واعتبر الغريزة العائلية من الغرائز الذاتية التي منحها الله للإنسان ، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) سورة الروم: 20 ، فهذه الظاهرة التي فطر الله عليها الإنسان منذ بدء تكوينه من آيات الله ومن نعمه الكبرى على عباده، وقد أكد الإسلام على أن تكون الأسرة المسلمة قدوة حسنة وطيبة تتوافر فيها عناصر القيادة الرشيدة ، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) سورة الفرقان: 74 .

وقد بدأت سلسلة الاستشراف بالأسرة بسبب تأثيرها القوي في المجتمع وهيئته فشكلها المستقبلي يؤثر حتمًا على شكل المجتمع المستقبلي وثقافته وأنشطته المتنوعة ، وإذا ما تخيلنا شكل الأسرة المستقبلة نستطيع بإذن الله استشراف الأمور الأخرى المتأثرة بهيكلها وقيمها وتوجهاتها العقدية والفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، فالأسرة العربية مرت عبر التأريخ بمجموعة تغيرات متأثرة بالتطورات الثقافية والاقتصادية والسياسية فبعد أن كانت الأسر الممتدة والأسر المشتركة والمركبة نمطًا سائدًا في الكثير من البلدان العربية تحولت هياكل الأسر العربية إلى أنواع جديدة جنحت في اتجاه الأسر النووية والمنفصلة والاستبدادية والديموقراطية وذلك نتيجة التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الشاملة التي شهدها المجتمع الحديث بفعل التحضر، والتصنيع، والتقنيات وتطور وسائل الثقافة والإعلام ، وقد تمثلت أبرز جوانب التغيرات الأسرية في الآتي :

– تزايدت حرية الفرد في انتقاء شريك حياته .

– شيوع أسلوب الزواج الخارجي وذلك باختيار الزوجة من فئات اجتماعية لا ترتبط بالضرورة برباط الدم.

– ارتفاع سن الزواج عند الجنسين نتيجة التحاق الذكور والإناث بمختلف المراحل التعليمية، وتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

– استقلال الأسر الجديدة عن الأسر الممتدة في المسكن والمعيشة واتخاذ القرارات .

– تزايد الهجرة نحو المدن لأسباب إقتصادية وثقافية وانخراط الأزواج في العمل .

– تقاسم القوامة المالية بين الأزواج نتيجة التوسع في ولوج المرأة ميادين العمل .

– تزايد الاعتماد على العمالة المهاجرة للقيام ببعض واجبات الأسرة في تربية الصغار .

– ارتفاع تكاليف الزواج بسبب تغير القيم والعادات والممارسات وغلاء الأسعار والمعيشة مما دفع إلى تأخيره عند الشباب .

ولهذا نجد أن هيكل الأسر النووية هو الغالب في مجتمعاتنا العربية اليوم ، مع بقاء تواصل الأرحام بين أعضاء الأسرالممتدة والعنقودية التي تكونت في السابق وبدأت تندثر بفعل التغير الشامل في كل مناحي الحياة ، وهنا ينشأ السؤال الذي يدعونا لاستشراف مستقبل الأسرة في وطننا العزيز، ما هيكل الأسرة وأدوارها في المستقبل ؟ ، وللوصول إلى استشراف علمي ومنطقي ينبغي لنا التعرف على تطور المتغيرات المؤثرة في البناء الأسري لنصل إلى إقتراح الشكل والهيكل المتوقع في المستقبل القريب والأبعد .

تشير المؤشرات الاقتصادية العالمية المستشرفة المستقبل أن النماء الاقتصادي سيواصل زيادته في الكثير من دول العالم المتقدم وبعض الدول النامية المصدرة للنفط لأكثر من خمسة عقود مستقبلة وستزيد دخول الأسر نتيجة لذلك النماء ، مما يترتب عليه تحسن في مستوى معيشة الأفراد في الدول التي تستثمر في الطاقات البشرية على الرغم من التقدم التقني والاستغناء بالآلات التقنية والإليكترونية عن العمال ، وستنشأ في المستقبل بإذن الله مجموعة من الأعمال التكنولوجية والتقنية التي تتطلب إدارة ومشغلين لها من العناصر البشرية، وقد اعربت مجموعة الدول العشرين في اجتماعها المنعقد في واشنطن في إبريل 2015م عن تفاؤلها بشأن نمو الاقتصاد الدولي ،مع تحسن احتمالات النمو في الدول الغنية ، وحيث أن وطننا العزيز ضمن الدول المتوقع نمائها الاقتصادي مما سينعكس بإذن الله تعالى على نشاط وزارة الإسكان في توفير المساكن للمواطنين وتوسع الأنشطة المالية في الإقراض التنموي مما سيؤثر حتمًا في تشكيل الأسر المستقبلة معززًا الشكل النووي ومتيحًا الفرصة لبروز شكل الأسر الديموقراطية .

وتشير إحصاءات وزارة العدل السعودية بأن حالات الطلاق أخذت في الازدياد سنويًا خلال العشرة سنوات الماضية لتبلغ في عام 2014م ثلاث أضعاف حالات الزواج المسجلة وهذا التزايد يعود إلى أسباب نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وتوسع تأثير وسائل الاتصالات والمعلومات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي إحصائية مرعبة تشير إلى التفكك الأسري وقد تمتد إلى المستقبل إذا استمرت أسبابها مما يؤثر حتمًا على هيكل الأسرة المستقبلة ونمائها ، ومتى تظافرت هذه المشكلة مع مشكلة ارتفاع سن الزواج لأسباب ثقافية واقتصادية فإن أطفال المستقبل سينخفض تعدادهم وستعتمد الأسرة أكثر على العمالة المهاجرة في تنشئة الصغار مما سينعكس على نوع ثقافتهم ومعتقداتهم وأنشطتهم المستقبلة وقد يزيد تعداد الأسر المتفككة وتزيد حالات الطلاق بانشغال الحكومة بالمشكلات الأمنية والفكرية والسياسية والاقتصادية وانصرافها عن تلافي أسباب هذه المشكلة التي تهدد البناء الأسري في المستقبل وتدفع إلى زيادة العنوسة والاحجام عن الزواج وانخفاظ تعداد الأسر .

وتشير الإحصاءات السكانية إلى أن معدل الخصوبة لدى المرأة السعودية استمر في الانخفاض خلال العشر سنوات المنصرمة بنسبة 2,81% في المتوسط العام بسبب أن الجيل الجديد يميل إلى إنجاب ثلاثة إلى أربعة أطفال، وتتباعد فترة الإنجاب بين طفل وآخر من أربعة إلى ستة أعوام، إضافة إلى تأخر سن الزواج خاصة عند النساء ، وقد سجلت الإحصاءات تراجعًا في نسبة المواليد في الثلاث سنوات المنصرمة وخاصة لدى سكان المدن وهم يمثلون الأغلبية بمعدل 2,5% بسبب تنظيم النسل وتحديده بما يتلاءم مع الحالة الاقتصادية وتأثير الثقافة الجديدة في قرارات الأسر وهما مؤشران يؤثران على شكل الأسرة المستقبلية وهيكلها .

وعلى ذلك فإن إحد المشاهد أو السيناريوهات المحتملة لشكل الأسرة في المستقبل يشير إلى أن الأسرة النووية ستصبح الغالبة في المجتمع وخاصة لدى سكان المدن وستوكل الأسرة أمور تربية الأولاد ورعايتهم للعمالة الوافدة وسيتلاشى دور الأسرة في التأثير على تربية الأولاد وتنشئتهم مقابل توسع تأثير المربيات والمدرسة والمجتمع ووسائل الاتصالات والمعلوماتية والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعية وسيؤثر ذلك حتمًا في الاتجاهات والعادات والقيم وأنشطة السكان في المستقبل ، وهناك مشهد وسيناريو آخر لا يقل خطورة من الأول إذ من المحتمل أن يتزايد التفكك الأسري بفعل الطلاق وسيلقى حمل تربية الأولاد على دور الرعاية الحكومية والأهلية مما سيحدث انفصامًا في التركيب الأسري وتظهر معه الأسر المفككة ، بينما يأتي مشهد استمرار الأوضاع قريبًا مماهي عليه اليوم أقل احتمالا مع استمرار أسباب العزوف عن الزواج المبكر واستمرار العنوسة وانخفاض مستوى الخصوبة ونسبة المواليد وكل ذلك يستدعي النظر من الحكومة في تلافي الأسباب التي قد تؤدي إلى تلاشي دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية من خلال التوسع في التثقيف بالأسرة ودورها الاجتماعي وتيسير أمور الزواج المبكر ورفع مستوى دخول الأفراد والتغلب على البطالة بكل أشكالها وأنواعها.

وقد ناقش مجموعة من خبراء العلوم الاجتماعية مؤشرات مستقبل الأسرة السعودية خلال عشرة أعوام مستقبلة ، وذلك في الملتقى السابع لجمعيات الزواج ورعاية الأسرة في المملكة العربية السعودية والذي أقيم في مدينة الدمام في فبراير 2015م ،ونوقش فيه أكثر من 30 بحثا علميا تحمل موضوعات حديثة الطرح ومقترحات لتلافي مشكلات العنوسة والزواج وبعض المؤثرات الأخرى في تشكيل الأسرة وهيكلها ودورها الاجتماعي ، ولعل المعنيين بشؤون الأسرة والشؤون الاجتماعية يفيدون من آراء الخبراء التي تمخض عنها الملتقى لتلافي المشاهد والسيناريوهات المحبطة والمحتملة لمستقبل الأسرة السعودية ، والله الموفق والمستعان .

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

التدبر والتفكر والتذكر والتعقل عبادات مأجورة

بسم الله الرحمن الارحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه ...