اعتاد الناس على الاعتقاد بأن مسؤولية التربية في مجملها تقع على عواتق الكبار مستهدفين بها الصغار من الناشئة وذلك لسابق خبرات الكبار وزيادة مكتسباتهم في التعلم من الحياة ومكوناتها المتنوعة ، وقليل من يؤمن بأن لدى بعض الصغار قدرة إبداعية وفائقة على تربية الكبار أيضًا ليس بسابق خبرتهم بل بثرائها وتفوقها على ما لدى الكبار،
ولعلي من أولئك القليلين المؤمنين بهذا التوجه وخاصة في عصر تنوعت فيه أدوات التعلم عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات المتنوعة وألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة والثرية كلها بالخبرات الجديدة والمتنوعة مما يغيب عن الكبار الغارقين في عالمهم التقليدي بعيدًا عن التقنيات الحديثة ويتفوق فيها الناشئة والصغار ، وقد ينقلون بعضًا من خبراتهم ومكتسباتهم من التعلم الذاتي وبعض تجاربهم للكبار فيقومون بالتربية المقصودة وغير المقصودة في بعض الأحيان ، وهناك من الصغار من يبدع فعلًا في تحمل أعباء تربية الكبار.
وقد أشرت في مقالة سابقة إلى أن الفجوة الثقافية بين الصغار والكبار تزيد اتساعًا مع تطور مدخلات التثقيف والتعليم والتربية وشيوعها في وسائل الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات المتنوعة وإقبال غالبية الناشئة عليها وعزوف غالبية الكبار عنها، وأوصيت في تلك المقالة بضرورة تغيير اتجاهات الكبار وخاصة القائمين على التربية والتعليم نحو وسائل التعلم المعاصرة وتكثيف برامج إعدادهم وتدريبهم عليها وأن عليهم منافسة الصغار على استيعابها واستخدامها في التربية والتعليم وأكدت على أن نقص هذه الخبرات لدى الكبار وثراءها لدى الناشئة سيعكس اتجاه التربية لا محالة لتصبح من الصغار للكبار.
إن علينا نحن الخبراء توجيه العناية إلى أن حدوث سلوك التربية ينتقل من الخبير إلى الأقل خبرة بهدف إكسابه الخبرات المتنوعة ، فإذا كان الصغار هم الخبراء والكبار أقل خبرة فإن على الكبار تقبل تربية الصغار لهم والحرص على الإفادة من خبراتهم لتوسيع دائرة التفاهم معهم وتقليص فجوات التنافر بينهم نتيجة تباين الثقافات والخبرات وانحسار مد التأثير المتبادل، وعلينا أن ندرك أن من الصغار من يبدع بالفعل في التربية ويملك كفايات التأثير الإيجابي والقيام بأعباء التربية، وقد قدمت لنا وسائل الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة نماذج مبدعة ومتفوقة من أولئك الصغار المبدعين.
لقد أحدثت التقنيات المعاصرة وانتشار الإنترنت والفضائيات والتطبيقات الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة تغيرًا جذريًا في سمات المجتمعات المعاصرة وخصائصها بما قدمته من سيولة في المعارف والمعلومات والخبرات المتنوعة بصيغ وأساليب وطرق أكثر تشويقًا ، جعلت العالم ينساب بعضه على بعض، فلا حدود ولا قيود تقف في وجه انتقال المعلومات، والتربية بحكم طبيعتها ووظائفها أكثر أنظمة المجتمع عرضة للتغير؛ وبناء على ذلك فالمتغيرات الحادة التي ينطوي عليها عصر المعلومات وعصر الانفتاح قد أحدثت بالفعل تغيرًا كبيرًا في منظومة التربية؛ مناهجها وأساليبها ومخرجاتها وأثرها, وأصبح من الضروري مراجعة منظومة التربية وتطويرها وإعادة إعداد القائمين عليها وتدريبهم لاستيعاب التغيرات المعاصرة والتعامل معها بما يحقق الغايات المنشودة من تربية سليمة وبناءة، وستظل الحاجة ملحة للتطوير المستمر في التربية لمواكبة مستجدات العصر ومستحدثات المستقبل.
ولعلي هنا أناشد الصغار المبدعين القائمين على تربية الكبار مراعاة الانطلاق في تربيتهم للكبار من أسس تربوية سليمة باختيار المحتوى والطرائق والأساليب التي تراعي الفروق الفردية بين المتلقين وتحدث أثرًا إيجابيًا في سلوك الكبار واتجاهاتهم وقيمهم بما يتوافق مع خصائص ثقافتنا الأممية ويلبي احتياجاتنا المعاصرة والمستقبلة، فكما يحرص التربويون على توصية الكبار القائمين على تربية الصغار فأنا أوصي هنا الصغار القائمين على تربية الكبار والذين أتوقع تزايد أعداهم في المستقبل بالآتي:
- اختيار الطرق والأساليب الملائمة لخصائص الكبار مع مراعاة التباينات الظاهرة فيما بينهم.
- تحمل ردود أفعالهم السلبية نتيجة إحساسهم بالعجز عن إدراك ما أدركه الصغار من مهارات متفوقة للتعامل مع المستجدات والصبر عليهم والمثابرة على إقناعهم بحاجتهم إلى التربية المستمرة.
- توجيههم بالحسنى وبالبر وبالتي هي أحسن إلى ما يحقق لهم اللحاق بركب ثقافة العصر التي تميز بها المبدعون وإلى ما يرشدهم إلى الخطوات السليمة للتعلم الحر والمستمر من وسائل التعلم التقنية والإليكترونية الذكية.
- الاجتهاد في تعديل الصور الذهنية لدى الكبار عن العادات والقيم والموروثات الثقافية وفقًا لما استجد بشأنها في خصائص العصر وأدوات التربية والتعليم والتثقيف المستجدة.
- تثقيف الكبار بكيفية استخدام الأجهزة الحاسوبية والهواتف الذكية وأساليب استخلاص الخبرات الجديدة من نشطائها بغض النظر عن أعمارهم صغارًا كانوا أم كبارا.
واعتقد أن هذا المنحى العلمي والتربوي وأعني به “تربية الصغار للكبار ” لم ينل ما يستحقه من عناية التربويين في البحث والدراسة بدليل شح المعلومات المتعلقة به فعند كتابة هذه المقالة لم يقع بين يدي دراسة علمية رصينة تتناول هذا الموضوع وحتى الكتاب المتخصصين في مجالات التربية لم أجد لأحد منهم مقالة أو ورقة عمل تسلط الضوء على هذا النمط من التربية المعاصرة والمستقبلة، ولذلك فإنني أدعو المهتمين بالتربية الحديثة إلى التوسع في بحث هذا الموضوع وتقرير مدى أهميته وإسهامه في ردم فجوة الثقافة بين الصغار والكبار لتحقيق التواصل الفاعل بين الأجيال . والله الموفق.