التطرف هو القيام بسلوكيات أو أعمال مخالفة لما عليه الجماعة تواجه في العادة برفض الغالبية ، وقد يكون التطرف في تبني الأفكار والمواقف واتخاذ القرارات على نحو لا يوافق المنهج الوسطي السوي وهو إما في موقف التشدد أو موقف الانحلال وهما الطرفان اللذان يمثلان اعتقاد ومنهج وقناعة الأقلية في المجتمعات ،
والتطرف تعبير يستعمل كثيرًا اليوم لوصف منهج فكري أو ديني أو اجتماعي أو تربوي عنيف ومتشدد وتترتب عليه آثار سلبية على الفرد والمجتمع ، ويقابله في الطرف الآخر الانحلال وهو تطرف ينادي بالتحرر التام من قيود الموروثات والعقائد والأنظمة ويمثلان نقيضان مرفوضان من مؤيدي الوسطية في الفكر والثقافة والعقيدة والاتجاهات، وهنا سألقي الضوء على نوع من أنواع التطرف ينتمي إلى التطرف الفكري ولكنه يتخذ من التربية وأدواتها سبيلاً لبلوغ غاياته وقد أسميته ” التطرف في التربية ” فما هو هذا النوع من التطرف كما أراه؟ وما أعتقد أنه يجرد التربية المتعارف عليها من مفاهيمها المعاصرة؟
لقد ارتبط مفهوم التطرف بالإرهاب وأوكل إلى التربية تحقيق بعض أهداف مكافحته ولم أجد بحوثًا أو دراسات جادة ولا حتى كتابات موثقة ولا معلومات موثوقة عن التطرف في التربية بشكل خاص ومقصود، حيث أن أغلب الدراسات تناولت التطرف الفكري والتطرف الديني والتطرف السياسي ونحوها مما يتداخل بشكل مباشر وغير مباشر مع التطرف في التربية بينما تناولت بحوث ودراسات أخرى دور التربية في تحقيق الأمن الفكري ومكافحة التطرف بأنواعه الشائعة، وجميع تلك الدراسات لم تشير إلى احتمالية فشل التربية المتطرفة في مكافحة التطرف.
قد تعمد بعض الأنظمة التربوية إلى اعتماد مناهج تربوية متطرفة تقود مخرجاتها إلى تغذية أنواع التطرف الأخرى فتُوكل عمليات بناء المناهج وتطويرها وإدارة العمليات التربوية وتقويمها إلى فرق عمل تتبنى الفكر المتطرف وتسعى جاهدة لإكساب مهاراته للناشئة من خلال العمليات التربوية النظامية في المدارس والجامعات وهذا ما أعنيه بالتطرف في التربية، ولم تسلم بعض الأنظمة التربوية في بعض دول العالم من تغلغله في بعض مفاصل العملية التربوية والتعليمية مما ساعد بدون شك على تحقيق مخرجات تربوية ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في إعداد الإرهابيين وحدوث الإرهاب.
ومن الحقائق والمسلمات التي يجب عدم إنكارها الاعتراف بأن الإرهاب لا يرتبط بفكر محدد أو عقيدة محددة أو اتجاه محدد فهو موجود في جميع أنحاء العالم وتقوم به فئات متنوعة في العقائد والثقافات والمذاهب والجنسيات ، ومن غير العدل أن يلصق الإرهاب بأمة بعينها أو فكر أو مجتمع بعينه، فكل سلوك إرهابي يعتمد العنف والتشدد والتضييق على حياة المجتمعات هو إرهاب منبوذ وكل نظام تربوي وتعليمي يغذي الإرهاب بالفكر وإعداد الكوادر هو نظام إرهابي، وعلى جميع دول العالم التي تنشد الأمن والسلام أن تكافح الإرهاب من خلال تجفيف جميع منابعه ومدخلاته الفكرية والعقدية والثقافية والتربوية والسياسية المتطرفة .
ولا يكفي توافر نظام تربوي وتعليمي وسطي لمكافحة التطرف في التربية ومكافحة الإرهاب بكل مفاهيمه ونواحيه فعمليات التربية كما أوضحت في مقالات سابقة تتشارك فيها مجموعة من الجهات الرسمية وغير الرسمية في البيت وفي المجتمع وفي المؤسسات التربوية والتعليمية وفي وسائل الثقافة والإعلام بكل أنواعها ومستجداتها وفي وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات المتطورة ، ولهذا فتحصين التربية من التطرف ينبغي أن يكون شاملاً لجميع أدواتها ومصادرها وجميع عملياتها وهنا تتشارك المسؤولية في تحقيقها الحكومات والأفراد والمؤسسات الحكومية والمدنية والمؤثرين في وسائل التواصل المعاصرة والمشاهير، وقد تبنى مجموعة من المثقفين طريقًا سلسًا لتحقيق الوسطية في التربية والتعليم بتعدد مدخلاتها ولمكافحة التطرف والإرهاب بكل ألوانه تمثل في الحوار وتقبل الاختلاف والرأي الآخر وأوصى مجموعة من المتخصصين بضرورة إقامة مراكز وأندية للحوار وأوصى آخرون بأهمية إكساب الناشئة وأفراد المجتمع مهارات التفكير الوسطي ومهارات الحوار وتقبل الاختلاف ورأى بعض التربويين ضرورة إدماج مفاهيم الحوار والحياة وحقوق الإنسان والتعايش السلمي وتقبل الآخر في المناهج التعليمية ، وأنا مع من ينادي ويوصي بضرورة حصانة التربية نفسها من التطرف بكل الوسائل والأساليب المتاحة فهي المنبع الأكثر تأثيرًا في توجيه الأفكار والاتجاهات وإكساب الكفايات والمهارات المتنوعة .
وقد تضمن إعلان بيروت حول الإصلاح التربوي للوقاية من التطرّف في المجتمعات العربيّة في 30 سبتمبر 2016 والذي اختتم به أعمال الاجتماع الإقليمي الذي نظمه معهد المواطنة و إدارة التنوّع في مؤسّسة أديان بالشراكة مع منتدى الفكر العربي حول موضوع الإصلاح التربوي تضمن توصيات ذات أهمية بالغة تسهم بإذن الله في مكافحة التطرف في الفكر والتربية وتساعد على تجفيف منابع الإرهاب ولأهميتها سأوردها كما وردت في الإعلان وهي كما يلي:
- .العمل على بناء منظومة تربويّة وتعليميّة تعزّز قيم المواطنة الحاضنة للتنوّع على مختلف أشكاله، وترسّخ مبادئ عدم التمييز وقبول الاختلاف. 2. السعي لأن يكون هدف المنظومة التربويّة والتعليميّة بناء إنسان يتمتّع بشخصيّة مستقلّة حرّة، قادر على التعبير وممتلكًا لأدوات الفكر النقدي ومهارات التواصل والحوار. 3. العمل على تمحور المنظومة التربويّة والتعليميّة حول المتعلّم وإشراكه في مختلف أبعادها، بما فيه عمليّات التقويم، لكي يجد معنى لتعلّمه كسبيل لتنمية الذات وللمشاركة الفاعلة في الحياة. 4. الاهتمام بالتكوين الشامل للمتعلّم وإدماج المكوّنات الثقافيّة والتواصلية والفنيّة الإبداعيّة والرياضيّة، وتلك التي تشجّع على الابتكار العلمي في المنظومة التربويّة والتعليميّة. 5. التركيز على دور المعلّم الرئيسي في العمليّة التربويّة والتعليميّة كميسّر للحصول على المعرفة وليس كمصدر لها، وتأهيل المعلّمين وسائر العاملين في المجال التربويّ وبناء قدراتهم لبث قيم المواطنة ومنع التمييز ومواجهة التطرّف وقبول التنوّع والاختلاف. 6. العمل على أن تكون المدرسة فضاءً مفتوحًا يرسّخ مفاهيم الديمقراطيّة وقيم حقوق الإنسان. 7. تنقية المناهج الدراسيّة من الصور النمطيّة وخطابات الكراهية والتمييز بكلّ أشكاله تجاه أيّ مكوّن ثقافي أو ديني أو إثني أو جندري من مكوّنات المجتمع. 8. إيلاء اهتمام خاص بمجالات التنشئة الاجتماعيّة والإنسانيّات واللغات والفنون وفق قيم المواطنة واحتضان التنوّع. 9. إدراج مقرّرات الفلسفة كمقرّرات أساسيّة في مراحل التعليم العام المختلفة بهدف تنمية القدرات النقديّة لدى المتعلّم. 10. مراعاة التعبير عن الإرث الثقافي المتنوّع في مقرّرات التاريخ التي يجب أن تشمل تقديم التاريخ الاجتماعي وتاريخ الشعوب. 11. إيلاء مسألة التعليم الديني العناية الخاصة، والتركيز على دوره في التربية على قيم الحياة العامة المشتركة، والتنبّه إلى المقاربات الانتقائيّة والتوظيف الإيديولوجي للنصوص الدينيّة. 12. التأكيد على الحاجة الملحة لمراجعة الموروث الديني وتجديد الخطاب بما يعزّز قيم المواطنة والعيش معًا. 13. الدعوة إلى تشكيل مجالس عليا مستقلّة للتربية والثقافة والعلوم تضع السياسات والمناهج التربويّة. 14. تشكيل هيئات وطنيّة مستقلّة تتولّى رصد عوارض التطرّف وتقويم المنظومة التربويّة وتضمن التزامها بمعايير الجودة. 15. تعزيز الشراكة بين المؤسّسات التربويّة الرسميّة والمجتمع المدني والخبراء، في عمليّة صياغة المنظومة التربويّة والتعليميّة وبنائها، والمشاركة في وضع السياسات والبرامج التربوية. 16. تشكيل شبكة عربيّة للتربية من أجل الأنسنة والمواطنة الحاضنة للتنوّع، بهدف تنسيق الجهود وتبادل الخبرات. والله الموفق.