تتعدد مصادر التربية المعاصرة وتتنوع في الأسرة والمجتمع ووسائل الإعلام والتواصل والتقنيات ، فمن البديهي أن يضطلع بتربية الأطفال أولاً أفراد الأسرة التي تتنوع بتنوع المستوى المعيشي والمستوى الاجتماعي وخصائص المجتمع فهناك أسر يضطلع الوالدان فيها بمسؤولية التربية دون سواهم وهي تلك الأسر التي يمثل الطفل مولودهم الأول ويسكنون بمفردهم بعيدًا عن الأسرة الممتدة ولا يستعينون بمساعدين لهم في تربية المولود ،
بينما تتوافر أسر أخرى يشارك الوالدين فيها مسؤولية تربية الأطفال مجموعة من الأفراد يتمثلون إما في أفراد الأسرة الممتدة مثل والأخوة والأخوات والأجداد والأعمام والأخوال ونحوهم وإما في الأفراد المستعان بهم في التربية من خارج أفراد الأسرة الممتدة مثل المربين والمربيات والعمال والخدم ونحوهم ، وتختلف أساليب التربية وتأثيراتها ومخرجاتها على الأفراد في كل نوع من أنواع الأسر بالتأكيد ، ويعود الاختلاف إلى تعدد خصائص المربين وتنوع ثقافاتهم.
وفي المرحلة الأخرى ينتقل الطفل من أحضان الأسرة إلى المدرسة حيث يتلقى فيها نوعًا جديدًا من التربية قد يتفق أحيانًا وقد يختلف أحيانًا أكثر عن ما تلقاه في الأسرة بتنوعها ، ثم يأتي دور القرناء والأصدقاء في مجتمع المدرسة وفي المجتمع العام لتبرز من خلال علاقاتهم مع المستهدف بالتربية أساليب وطرق جديدة في التربية مباشرة وغير مباشرة قد تتفق أحيانًا مع ما سبقها من مصادر وقد تختلف أحيانًا كثيرة، ثم تأتي وسائل الإعلام ووسائل الترفيه ووسائل التواصل والتقنيات التي يتفاعل معها الفرد لتحدث آثارها المتنوعة فيه بقدر تفاعله معها بالتوافق حينًا وبالتضاد أحيانًا كثيرة مع ما تلقاه في المصادر التربوية الأخرى ، فما الذي يحدث في شخصية الفرد نتيجة تلقيه مجموعة من الخبرات والقيم والاتجاهات والسلوكيات المتوافقة والمتضادة؟
إن شخصية الفرد تتكون بالتربية المباشرة وغير المباشرة وبالتعلم والتعايش مع المجتمع ومكوناته ومن الطبيعي أن تتكون اتجاهاته نحو الأفراد والمجموعات ونحو الأشياء بناء على علاقاته بها وأكثر ما يحدث الأثر في تكوين شخصيته ما يتلقاه بالتربية الأولى في النطاق الأسري ثم يحدث التطور عليه نتيجة ما يتلقاه من مصادر التربية الأخرى، ولذلك تعد الأسرة من أهم مصادر التربية على الإطلاق ففيها ترسخ القيم والاتجاهات وفيها ترسم الملامح الرئيسية لشخصية الفرد، وتتباين الأسر في حجم التأثير وقوته بتنوعها كما تتباين في نوعية التأثير بتنوع ثقافاتها وتتباين في الأساليب والطرق بتنوع القائمين على التربية فيها، ولآن الأسر لا تملك القدرة على التحصين التام من آثار مصادر التربية الأخرى فإنها ستواجه بالتأكيد الكثير من المتناقضات والاختلافات المؤثرة في تكوين شخصية الفرد داخل الأسرة نفسها وخارجها، وهنا يمكن القول أن توافق مصادر التربية واختلافها أمر طبيعي وحتمي ولا يسلم فرد في تربيته من التأثر بالأقوى تأثيرًا منها وكل منا تفسر شخصيته حجم المؤثرات في تكوينها.
لقد تناول الفلاسفة القدماء هذا الجانب من التنوع في مصادر التربية للفرد في زمنهم حيث أكد “روسو” بأن التربية تحدث نتيجة اكتساب الفرد خبراته من الفطرة التي وسمها بالطبيعة ومن الناس ومن الأشياء ، وأكد على أن التربية الراسخة والثابتة والنافعة هي التي تتوافق فيها المكتسبات من تلك المصادر أو تتلاءم ولا تتضاد ، ومن الأشياء الأكثر تأثيرًا في التربية اليوم وسائل الإعلام الجديد ووسائل التواصل والتقنيات والتطبيقات والألعاب الإليكترونية وألعاب الفيديو فهي شديدة التأثير على الناشئة ويبرز من خلالها الاختلاف البين مع مدخلات وعمليات ومخرجات المصادر التربوية المعاصرة الأخرى في الأسرة والمدرسة والمجتمع ، فآثارها السلبية أكثر من الإيجابية وخاصة في جوانب المعتقدات وفي الثقافة والسلوك والقيم والذوق العام وقدرتها الفائقة على تقويض مكتسبات الأفراد الإيجابية من المصادر الأخرى وإحلالها بمكتسبات سلبية مضادة تنعكس على خصائص الأفراد وعلاقاتهم بالمصادر التربوية الأخرى، وأصبح من الصعوبة بمكان السيطرة على المحتوى التربوي في تلك الوسائل المنفتحة وأصبح القبول بها أمرًا حتميًا ولو أحدثت آثارًا سلبية بينة وظاهرة واتجهت توصيات التربويين اليوم إلى أهمية تقوية التربية الأسرية والتربية المنظمة والممنهجة للتصدي لغثاء المحتوى التربوي فيما عداها من المصادر المفتوحة .
فاليوم تواجه المجتمعات مجموعة كبيرة من التحديات لتعدد مصادر التربية فيها لعل من أبرزها:
- غلبة الماديات على تفكير أفراد الأسرة: وهو ما دفع بالوالدين إلى الانهماك في الماديات والسعي وراء تلبية متطلبات أفراد الأسرة المادية، مما أخل بدورهما التربوي، إضافة إلى أن أغلب أفراد الأسرة أصبح تعاملهم مع آبائهم تعاملاً ماديًا.
- اتساع الفجوة بين تفكير الناشئة وتفكير القائمين على تربيتهم، مما يؤدي غالبًا إلى عزوف الناشئة عن الاستفادة من خبرات المربين وعدم قدرة بعض المربين على ملاحقة تفكير الناشئة.
- تطور الانفجار المعرفي والمعلوماتي واتساع تأثيره حيث أصبح المربي يتعامل مع ناشئة لديهم كم هائل من المعلومات والخبرات والقيم التي اكتسبوها من وسائل الاتصالات الحديثة، تفوق في كثير من الأحيان ما يتوافر لدى المربين، وقد تتعارض معه.
- تقلص خصوصية المجتمعات لصالح العولمة والانفتاح الثقافي، وبروز تأثيرها على القيم والاتجاهات لدى الأفراد المتأثرين بمصادر التربية المعاصرة المتعددة.
- عجز بعض النظم التربية على ملاحقة التطورات المذهلة والمتسارعة في التقنيات ووسائط التعليم والتعلم المعاصرة مما يظهر أساليب التربية المنظمة متخلفة وتقليدية أمام التطور المتسارع في المصادر الأخرى.
ولمواجهة هذه التحديات والتقليل من آثار اختلاف مخرجات مصادر التربية على الأفراد فإن على القائمين على التربية في الأسرة والمدرسة والمجتمع أن يستوعبوا هذه التحديات ويعملوا على تطوير أساليبهم وأدواتهم والتركيز على تعزيز القيم لدى الناشئة وإكسابهم مهارات التفكير السليم والتقييم الموضوعي لمحتويات التربية المباشرة وغير المباشرة التي يتلقونها من المصادر المتنوعة وإكسابهم مهارة اتخاذ القرار لقبول ما توافق من مخرجاتها مع العقيدة والقيم والثقافة العامة ونبذ ما اختلف وتناقض، والله الموفق.