بسم الله الرحمن الارحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله ، أما بعد :
لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليكون رحمة للعالمين وشفاء لما في الصدور ، فقال تعالى : ” يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” يونس 57 ، وحث الله العباد على التدبر والتفكر في آيات القرآن الكريم أحكامه وآمثاله وقصصه وتوجيهاته ، قال تعالى: ” بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” النحل 44.
وقد وردت في القرآن الكريم الكثير من الآيات والأدلةُ العامةُ الدالةُ على أهمية التدبر والتفكر والتذكر والتعقل ومن ذلك في التدبر قوله تعالى: ” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد 24، وقوله تعالى:” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” النساء 82، وقوله تعالى:” أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ ٱلْأَوَّلِينَ” المؤمنون 68، وقوله تعالى:” كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ” ص 29، وغيرها
وفي التفكر قوله تعالى: ” لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” الحشر 21 ، وقوله تعالى: ” وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” الأعراف 176، وقوله تعالى:” كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” يونس 24، وقوله تعالى:” وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الرعد 3، وقوله تعالى:” يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” النحل 11، وقوله تعالى:” بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ” النحل 44، وقوله تعالى: ” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الروم 21، وقوله تعالى: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الزمر 42، وقوله تعالى: ” وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” الجاثية 13، وقوله تعالى: ” لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” الحشر 21 ، وغيرها
وفي التذكر قوله تعالى: ” وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” البقرة 221، وقوله تعالى: ” تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” إبراهيم 25، وقوله تعالى: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” القصص 43، وقوله تعالى: ” وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” القصص 46، وقوله تعالى: ” وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” القصص 51، وقوله تعالى: ” وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ” الزمر 27، وقوله تعالى: ” فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” الدخان 58 ، وقوله تعالى: ” وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” الأنعام 152، وقوله تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ” النحل 90، وغيرها.
وفي التعقل قوله تعالى: ” وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” النحل 12، وقوله تعالى: ” وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًاۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون” النحل 67، وقوله تعالى: ” وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” الروم 24، وقوله تعالى: ” ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ” الروم 28، وقوله تعالى: ” وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ” الجاثية 5 ، وغيرها.
مفهوم التدبر في اللغة:
يتركز مفهوم كلمة التدبر في معرفة أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها، فالتدبُّر هو: النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه.
قال الزجاج: “التدبر: النظر في عاقبة الشيء” ، وقال ابن فارس : “دبر: الدال والباء والراء. أصل هذا الباب أنَّ جُلّه في قياسٍ واحد، وهو آخِر الشَّيء”، وقال الجرجاني : في تعريف التدبر: “عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكرَ تصرفُ القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب”، والتدبير والتدبر: نظرٌ في عواقب الأمور، فتنظر إلى ما يؤول إليه عاقبتُه .
مفهوم التفكر في اللغة :
الفِكر : إعمالُ الخاطِر في الشيء . قال الجوهري : التفكر : التّأمُّلُ، والاسمُ الفِكْرُ، والمصدر الفَكْرُ، بالفتح، قال ابن القيم في تعريف الفكرة في ( منزلة الفِكرة ) : هي تحديق القلب إلى جهة المطلوب التماسًا له ، وقال الشرباصي :التفكر بالمعنى الأخلاقي الإسلامي القرآني : هو أن ينظر الإنسان في الشيء على وجه العبرة والعظة، لتقوية جوانب الخير والصلاح، ومقاومة دواعي الشر والفساد ، وقال القرطبي في تفسير قولـه تعالى : ” وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ” : التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعِبر منها، ليكون ذلك أزيد في بصائرهم : وفي كل شــيءٍ له آيةٌ تدُلُّ على أنَه واحـدُ ، وقال ابن عثيمين : التفكُر هو أن الإنسان يُعمل فكره في الأمر حتى يصل فيه إلى نتيجة.
مفهوم التذكر في اللغة:
تَذكُّرُ الْمَعْلُومَاتِ: هو اِسْتِرْجَاعُهَا بَعْدَ تَحْصِيلِهَا. وهو يعني : استعادة الصور، والمعاني الذهنيَّة الماضية عفوًا، أو عن قصد، ويأتي بمعنى اتعظ واعتبر ، ويشير التذكر إلى العملية الذهنية لاستعادة معلومات من الماضي، ويُعتبر أحد العمليات الجوهرية التي تجري في الذاكرة، إلى جانب الترميز للمعلومات وتخزينها، وهو ثمرة التفكر ونتيجته وهو أعلى من التفكر لأن التفكر في الواقع طلبٌ للتذكر فالتفكر يكون بتحريك العقل و إجالته في الأمور من أجل أن يحصل التذكر.
مفهوم التعقل في اللغة
التعقل تعني الإدراك والتمييز ، وتعني تفكّر، وتدبَّر، وفهم وأدرك ، بمعنى ناقش المسألةَ بفكرٍ مُتعقِّل ليعقَّل الأمرَ على حقيقته، والتعقل هو إعمال ملكات العقل من التذكر والتدبر والتفكر والوعي في الأمر لإدراك معناه وفحواه وما ينتج عنه وما يترتب عليه ،
وللتدبر والتفكر والتذكر والتعقل مكانة في عبادات المسلم وهي أدوات من أدوات العقل للاستدلال بها على الحق والهدى وبلوغ العلم اليقين والإيمان بالله تعالى وبما أنزل من الآيات والقصص والأمثال والأحكام والحكمة والتصديق بها والاتعاظ بها والاعتبار بما فيها والعمل بأحكامها. فبهذه العمليات العقلية مفتاح العلوم والمعارف، وبها يستنتج العاقل كل خير، وبها يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته فيه . فإنها تعرِّف العبد بالرب المعبود وتدل عليه وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، وتعرِّف الطريق الموصلة إلى مرضاته تعالى وصفات أهلها ومرتاديها ، وكلما ازداد العبد تأملاً بالتذكر والتفكر والتدبر والتعقل ازداد علماً وعملاً وبصيرة وإيمانًا وتسليمًا،