(4) : المجتمع السعودي في المستقبل
مر المجتمع في شبه الجزيرة العربية بعدة تحولات تأريخية وكان المجتمع البدوي هو السائد فيها ويغلب على أفراده العمل في الرعي والمجتمع القروي الريفي ويشتغل غالبية أفراده في الزراعة والرعي وقليل جدًا من المجتمع المتحضر في بعض المدن الصغيرة المشتغلين في التجارة والصناعة ، وتطور التشكيل المجتمعي على أثر مجموعة من المتغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ليزيد تعداد المجتمع المتحضر ويقل تعداد المجتمع البدوي والريفي نتيجة الهجرة المسترسلة إلى المدن وتغير أنشطة السكان في اتجاه الوظائف الحكومية العسكرية والمدنية والأنشطة التجارية والصناعية ، ويمكن تصنيف التشكيلات الاجتماعية في الجزيرة العربية تاريخياً إلى :
- التجمعات المدنية في مدن الحجاز الكبيرة القائمة على التجارة وعائدات خدمات الحج والعمرة ، حيث أسهم وضعها الاقتصادي وموقعها الديني ، في ترسيخ ملامح ثقافة براجماتية منفتحة ومتسامحة مع المذاهب والطوائف الإسلامية كافة ، وكذلك المنحدرات المناطقية والعرقية ، بل مع الآخر المختلف عرقياً ولغوياً وحتى دينياً .
- التجمعات شبه المدنية وقامت في الإحساء والقطيف وجيزان ، ونجد ، إلا أن بعدها عن معترك التشابك الحياتي مع الطوائف والأعراق الأخرى ، كان كافياً لأن تبقى تجمعات منغلقة على ثقافتها وقناعاتها الطائفية والمناطقية.
- تجمعات أخرى تشكل أكثر من سبعين في المائة من المناطق كانت مبنية على حياة تجمعات مستقرة ” قروية وقبلية ” قائمة على الرعي والزراعة أو الصيد البحري، وعلى تجمعات قبائل رعوية ” مترحلة ” تتمدد عبر معظم صحاري الجزيرة العربية.
وقد أثرت الظروف الاقتصادية للتجمعات القروية والرعوية على توجيه الثقافة المجتمعية القائمة على الدين والأعراف ومصلحة الجماعة، وفق منظومة أولوية الانتماء للجماعة في أبعادها القروية والقبلية ، والمذهبية والطائفية ، والعرقية ، وترسيخ تقاليد التخوف من الآخر أو التحيّز ضده ، حفاظاً على الحدود الدنيا من الوفاء بالاحتياجات المعيشية لهذه الجماعات، كما أثرت قيمها على إذكاء الحروب القبلية والفئوية والطائفية وتقاليد الثأر ، وبعد تأسيس الدولة السعودية الثالثة على معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية أخذ التشكيل المجتمعي بفعل المتغيرات السياسية والاقتصادية والحضارية يتخذ شكلا جديدًا حيث وطنت البادية وهيئت الهجرة إلى المدن وتطورت التنمية الوطنية مترتبة على التوسع في انتاج النفط وتسويقه وتصنيعة فتطورت المدن وجذبت إليها هجرة البادية والريف ، ويرى بعض علماء الاجتماع أن المجتمع السعودي لم ينتقل بعد من البداوة إلى الحياة الحضرية انتقالاً تاماً وأن الدولة قامت بجهد كبير لإنجاز ذلك ، وانصبت جهود الدولة السعودية لتحديث المجتمع على مجالات كثيرة منها : الصحية ، والتعليمية ، والتنموية بشكل عام ، لكن الأثر الكبير كان في مجالين : العمل في حقول النفط ، والجيش والحرس الوطني والتعليم ، ويعتبرون هذا الأثر مؤشراً على أن أخلاق وقيم وعادات المجتمع البدوي والمجتمع الريفي الزراعي ما زالت هي المسيطرة بشكل مباشر أو غير مباشر على المجتمع ، رغم ارتفاع نسبة العاملين في مجالات الصناعات الخفيفة والخدمات العامة ، ورغم عملية ” الحراك الاجتماعي ” المهمة التي حدثت في المجتمع السعودي ، تحت تأثير ” المتغير النفطي ” ، وعمليات الهجرة الواسعة للعمالة خلال السبعينات التي أدت إلى ” تسييل” المجتمع السعودي جزئياً تحت ضغط المتغيرات الحضرية المتنامية .
وعلى الرغم من نشأت مجموعة من النشاطات العلمية المنادية بتطوير المجتمع السعودي إلى المجتمع المدني للتحرر والديمواقراطية فإن القائم في المجتمع السعودي حتى اليوم هو المجتمع المتحضر ظاهريًا المتبدون والمتريف في الأصل والذي تسوده علاقات بدوية وريفية ، تتسم بالعلاقات القرابية والأسرية الجمعية ، وتسيطر على فكر أفراده العادات والتقاليد الموروثة ، وتتلاشي فيه فضاءات الحرية للأفراد ، وقد أثر ذلك على نوعية إدارة المؤسسات حيث تحولت إلى أداة في يد الأفراد المتــنفذين والمتحكمين بقصد إضفاء الشرعية على الهيمنة والسيطرة والاستخواذ ، وقاد ذلك إلى ” ترييف ” و” تزييف ” و” تكييف ” المفاهيم والأشكال الإدارية الحديثة لخدمة الواقع المستبد .
وتكوين المجتمع المدني مهم جدًا من وجهة نظر التنويريين لارتباطه بشكل الحكم الأكثر ديموقراطية وارتباطه بالعولمة في جميع مستوياتها ، فالمجتمع المدني هو في ذهن النخبة مرادف للتحول الديموقراطي ، فهو بديل عن المجتمع الذي تهيمن عليه سلطة الدولة الاستبدادية الشمولية ، والبديل عن النظام القبلي والمجتمع الطائفي ، ولعل أكثر ما يعيق تكون المجتمع المدني في الوطن العزيز هي المشروعية والقانونية في ظل غياب التنظيمات والتشريعات التي تسمح له بالتكون والنشوء ، ويرى أحد التنويريين في المجتمع السعودي أن المجتمع المدني ضرورة للدولة العادلة حيث أن الحكم الدستوري والفصل بين السلطات هي ما يهيء لنشأته وتطوره، وهو حسب تصوره ضابط العلاقة الطبيعية بين الدولة والمجتمع ، وهو طريق التقدم في كل زمان ومكان، والمجتمع المدني مفهوم ” حضاري عالمي إنساني ” ، بل إنه من مقاصد الشريعة الكبرى.
والمجتمع المدني يتكون من : القيم ، وأهمها : الحرية والعدالة والكرامة والشورى ، ومن الإجراءات الدستورية ، كالفصل بين السلطات، وتبني الحكم الرشيد وإشراك المجتمع في الحكم والإدارة وتقاسم السلطة ، ومن التكتلات الأهلية وتشمل تجمعات المجتمع المدني مثل: الجماعات المهنية ، والجماعات الاجتماعية ، والجماعات الثقافية ، والجماعات الاقتصادية … ونحوها ، ولكي تتمكن مؤسسات المجتمع المدني من تأدية دورها كداعية لبناء مجتمعات مدنية قوية وفعالة ونشيطة، لابد أن تضع في اعتبرها أن المشاكل التي يواجهها المجتمع من ظلم وحرمان وفقر وبطالة وأمية وتمييز وحرمان من المشاركة السياسية وقمع للحريات المدنية، هي نتاج إقصاء المجتمع المدني، وان حل تلك المشكلات لن يتحقق دون عدالة سياسية واقتصادية واجتماعية، وان ذلك لن يتحقق دون وجود مؤسسات المجتمع المدني الأهلية، والتضامن بينها وبين كافة المؤسسات الرسمية، من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية، وربط كافة المشاريع باحتياجات السكان الحقيقية، على أن يتم ذلك في إطار وجود خطط عمل طويلة وقصيرة المدى، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك لن يتم بعيدا عن التنسيق والتعاون مع شبكات العمل المشترك بين المنظمات الأهلية الدولية ، ولتأخذ مؤسسات المجتمع المدني دورها ومكانتها فلابد من توفر إرادة سياسية وقرار جرئ وجاد يتيح لها النشأة والتكون ، وأن تثبت النخب الوطنية السياسية والإصلاحية قدرتها على الاستمرار في مشروع الإصلاح السياسي والثقافي وتجاوز الانقسامات ، مع تطور النشاط المدني والحقوقي الأهلي ، وهو ما سيحدد طبيعة ومستقبل المجتمع المدني وحقوق الإنسان في المجتمع السعودي .
وعند استشراف مستقبل المجتمع السعودي انطلاقًا من تأريخه وواقعه وقياسًا بالمتغيرات الدولية مع مراعاة المؤثرات الأساسية في تطور تشكيله تبرز لنا مجموعة من الاحتمالات والفرضيات والمشاهد والسيناريوهات لعل من أبرزها مايلي :
المشهد الأول : استمرار ترييف المجتمعات المدنية مع ازدياد الهجرة الريفية إلى المدن وتمسك السلطة والحكومة بمنهجها في الحكم مع إحداث بعض التطويرات في مجال منح المجالس البلدية مزيدًا من الصلاحيات غير المالية والتوسع في عضويتها المنتخبة واستمرار التحفظ على تشريع نشأت مؤسسات المجتمع المدني الحقوقية والاصلاحية ، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية مما سيترتب عليه مجموعة من الاضطرابات الأمنية والاجتماعية نتيجة تمدد الفقر والبطالة والاعتماد على العمالة الوافدة في العمل والتنمية .
المشهد الثاني : التحول السياسي إلى الدستورية تدريجيًا بإتاحة الفرصة للمجتمع بالمشاركة في السلطة من خلال مؤسسات المجتمع المدنية والتوسع في الانتخابات وتشكيل المجتمع المدني وتوزيع التنمية لتشمل المدن الصغيرة بما يشجع الهجرة المعاكسة من المدن الكبيرة إليها والتخلص من ظاهرة الترييف تدريجيًا باعتماد لوائح وقوانين مدنية جديدة تساعد على التشاركية المجتمعية بعيدًا عن القبلية والطائفية والمذهبية ، وتطوير مخرجات التعليم بما يتوافق مع متطلبات التنمية والتوسع في السعودة والاحلال .
المشهد الثالث : نشأت الأحزاب السياسية المنتمية إلى العقائد والأفكار والطوائف وضغطها على الحكومة لمشاركتها السلطة وتأثيرها على تشكيل المجتمع المدني التنويري في اتجاه ضبط معاييره بما يتلاءم مع التوجهات الحزبية وتشكيل السلطة التنفيذية من مخاض الحزبية السياسية وانعكاس ذلك كله على التنمية الوطنية والتعامل مع مؤسسات وأعضاء العهد السابق بالإقصاء والتنكيل والتأثير على السلطات الأخرى التشريعية والقضائية بما يحقق أهداف الانفتاح والتعددية والسيطرة على مؤسسات المجتمع المدني التي ستوجه أنشطتها نحو تحقيق أهداف الأغلبية الحاكمة أو الإتلاف الحاكم واستمرار الترييف المجتمعي في شكل الحزبية السياسية والفكرية.
المشهد الرابع : تحرر التعليم والإعلام من التبعية للحكومة المركزية وقيادتهما للتحولات نحو الديمواقراطية والتعددية المنظمة والمجتمع المدني المتحضر في ظل حكومة دستورية أو شبه دستورية منفتحة على المشاركة المجتمعية بما يساعد على إحداث نقلة تطويرية في النهضة الوطنية والتنمية الشاملة وتحقيق العدالة المجتمعية وتوسيع دائرة التكافل الاجتماعي والتخلص تدريجيًا من القيود البدوية والريفية المؤثرة على بناء المؤسسات الحكومية والاجتماعية وبنية المجتمع المدني بحيث تظهر الخطط الإستراتيجية والعمل المؤسساتي وفق معايير الأداء المتطور وعليه ستنمو المدن الصغيرة بفعل تنويع النشاطات التنموية وتوجيه الهجرة السكانية ، وظهور المؤسسات الأهلية المستقلة في مجالات التعليم والصحة والإقتصاد والصناعة … ونحوها .
المشهد الخامس : استمرار مقاومة التغييرات الفكرية الداعية للتطوير والإصلاح للمحافظة على الشكل القائم وإحكام الضبط الأمني والمحاكمات القانونية وغير القانونية لكل دعاة التنوير والانفتاح على المجتمع المدني والتعددية واستمرار نمط الحكومة والإدارة مع استمرار وضع المجتمع وتكويناته العقدية والعرقية والطائفية والفكرية المضطربة والتضييق على وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الإليكترونية لضمان استمرار السلطة والاستحواذ والتشكيلات الطبقية الاجتماعية والاقتصادية مما يعني الجمود وعدم الرضوخ للتطور.
وأيًا كان المشهد المستقبلي للمجتمع السعودي فإن التطورات في العالم تشير إلى حتمية حدوث التطورات في المجتمع السعودي إما وفق رؤية التنويريين المنفتحين على التطورات العالمية أو وفق رؤية الأصوليين المتمسكين بالعادات والتقاليد والأعراف والقيم العقدية والمجتمعية أو المقاومين لعمليات التطوير ، وسيترتب على شكل المجتمع السعودي في المستقبل نوع النشاطات المجتمعية والفكرية والاقتصادية وسيتأثر بها التعليم والنظم والقوانين ونوع الحكم والإدارة ، ولعلي في الحلقات القادمة أستشرف تلك المتغيرات المتأثرة بتطورات الأسرة والمجتمع والمتوقعة في مستقبل الوطن العزيز . والله الموفق والمستعان.