الرئيسية / مقالات / سلسلة خميسيات حالمة (16) شيء من الفلسفة بين العقل والمعرفة

سلسلة خميسيات حالمة (16) شيء من الفلسفة بين العقل والمعرفة

شيء من الفلسفة بين العقل والمعرفة !!

يعتبر العقل في نظر الكثير من الناس بمثابة ملكة تميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى على مستوى السلوك و التفكير وعلى هذا الأساس يتم التمييز بين الإنسان العاقل و الفاقد للعقل أو مختله أو ناقصه . والإنسان العاقل قد يفقد عقله أو صوابه حينما يخضع للغرائز أو يلجأ إلى ممارسة العنف أو ينخرط في الخرافة و السحر و الشعوذة أو يتناول من المأكولات والمشروبات ما يؤدي به إلى فقدان العقل وقتيًا أو نهائيًا .

وهنا تطلق النعوت على فاقدي العقل بحسب نوعه ، فيقال المخبول ، والمجنون ، والثمل المخمور ، والمغشي عليه ، ونحو ذلك …. بينما ينظر الفلاسفة إلى العقل من حيث ملكاته ووظائفه وإنتاجه ومخرجاته ، فيعرفه الفيلسوف (لالاند) بأنه ملكة للمعرفة تميز الإنسان عن الحيوان و المعرفة خاصة بكل فرض ، كما أن العقل في نظره يمكن أن يكون موصل للمعرفة و من تم يمكن القول أنه ذاتي و موضوعي متعدد الأشكال كليا كونيا و ضروريا في مقابل الخيال و الوهم نسبيا و محدودا وفي مقابل المعرفة الإلهية المطلقة .
أما المعرفة فهي إدراك الشيء بالتفكير والتدبر في وصفه وأثره، وهي أخص من العلم، ويقال فلان يعرف اللّه، ولا يقال يعلم اللّه ، وهي نتاج العقل ومخرجه الطبيعي عند العقلاء .
ويمكن التفريق بين المعرفة والعلم من عدة أوجه كما فصلها الفيروزبادي في كتابه بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ، ومجملها في الآتي :
أولاً : أن المعرفة تتعلق بالشيء ذاته، والعلم يتعلق بأحوال الشيء، فتقول: عرفت أباك وعلمته صالحاً، ولذلك جاء الأمر في القرآن الكريم• بالعلم دون المعرفة• كقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا اللّه} (سورة محمد – 19). فالمعرفة: تصور صورة الشيء، والعلم حضور أحوال الشيء وصفاته، والمعرفة نسبة التصور، والعلم نسبه التصديق.
ثانياً: أن المعرفة في الأغلب تكون لما غاب عن القلب بعد إدراكه، فإذا أدركه قبل عرفه، أو تكون لما وصف له بصفات قامت في نفسه، فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها قيل: عرفه. قال تعالى {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}(سورة يوسف58) فالمعرفة نسبة الذكر في النفس وهو حضور ما كان غائباً عن الذاكر؛ ولهذا كان ضدها الإنكار، وضد العلم الجهل، قال تعال:{يعرفون نعمة اللّه ثم ينكرونها}(سورة النحل -83) ويقال عرف الحق، فأقر به، وعرفه فأنكره.
ثالثاً: أن المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره، والعلم يفيد تميز ما يوصف به عن غيره.
رابعاً: أنك إذا قلت: علمت محمداً، لم تفد المخاطب شيئاً، لأنه ينتظر أن تخبره على أي حال علمته. فإذا قلت: كريماً أو شجاعاً حصلت له الفائدة، وإذا قلت: عرفت محمداً، استفاد المخاطب أنك أثبته وميزته عن غيره، ولم يبق أن يتنظر شيئاً آخر.
خامسا: أن المعرفة علم يعين الشيء مفصلاً عما سواه بخلاف العلم، فإنه يتعلق بالشيء مجملاً، والمعرفة عند المحققين: هي العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده .
والمعرفة الإنسانية يتم التوصل إليها عن طريق ترجمة العقل وتحليله وتفسيره لما ترسله إليه الحواس وهي مكتسبة بالاكتشاف كما تؤكد ذلك بعض الآراء الفلسفية، فالشخص الذي يولد أعمى لا يمكن أن يعرف الألوان وفاقد السمع لا يميز بين الأصوات ، وفاقد الشم لا يميز بين الروائح ، وهكذا …. فمعرفة اللون تتطلب البصر ومعرفة الصوت تتطلب السمع ومعرفة الرائحة تتطلب الشم .
وقد اختلف الفلسفيون في تحديد نوع المعرفة وتصنيفها بين معرفة بدهية أو فطرية ومعرفة كلية أو مركبة حسية ، فيرى البعض منهم أن البدهية لا تحتاج إلى تحليل عقلي وهي موجودة بالأصل في مكوناته كإدراك الجزء من الكل وإشباع العرائز وهو ما يعني أن العقل به قوالب تصنيف أصيله تستخدم الزمان والمكان لمقارنة الأشياء وتحدد نوع الغريزة ومتطلباتها ، ومن هنا يفسرون معرفة الرضيع لاستخدام مهارة الرضاعة لإشباع غريزة الجوع .
وجوهر المعرفة موجودة وجوداً محققاً، ولكن نعت المعرفة من قلة أو كثرة، أو نسبية، أو طلاق، أو فطرية، ومكتسبة، هو الذي اختلف فيه الفلاسفة منذ أقدم عصور الفلسفة الإنسانية فهي تارة نسبية، وأخرى مطلقة، وثالثة فطرية كلها، ورابعة مكتسبة كلها ترتكن على التجارب، وكذلك تعيين القوة العارفة، وتحديد مدى اختصاصها، فمرة هي الحواس وحدها كما عند (هرقليطس) وأخرى هي الحواس مع العقل كما يرى ذلك (أرسطو) وثالثة هي البصيرة كما يرى ذلك (أفلاطون) ورابعة هي العقل وحده كما يرى ذلك (ديكارت). وهي لا تتطلب العقل الكامل ، حيث يمكن لفاقد العقل التعرف على بعض الأشياء بحسب الجزء الذي يعمل في العقل ، بينما يفقد المعرفة كليًا من فقد العقل كليًا .
ويمكن تصنيف المعرفة العقلية إلى صنفين أساسيين هما المعرفة العامية ، والمعرفة العلمية ، وقد لخص الدكتور محمد غلاب الفرق بينهما فيما يلي :
– أن المعرفة العامية مقصورة على النواحي المادية والاجتماعية من الحياة بينما المعرفة العقلية الفلسفية تتناول فوق هذا تدبرُّ أسرار الكون والوجود.
– أن المعرفة العامية موجودة لدى جميع أفراد بني الإنسان، على حين أن المعرفة العقلية الفلسفية مقصورة على أصحاب العقول المفكرة.
– أن المعرفة العامية فطرية توجد لدى كل من توفر فيه القدر المحقق للإنسانية من العقل، ولكن المعرفة العقلية الفلسفية مكتسبة بالمران والتطبيق الدقيق.
– أن المعرفة العامية معرضة للتأثير بالغريزة أو بالعاطفة، في حين أن المعرفة العقلية الفلسفية خليقة بأن تكون بعيدة عن أثر هذين الباعثين.
فالمعرفة حلقات تزيد اتساعا بإعمال العقل فيها تحليلا وتفسيرا تبدأ بالمعرفة العامية التي يشترك فيها جميع أفراد النوع البشري، ثم تصعد إلى درجة التجارب الحسية على أيدي الطبيعيين أو الكيمائيين، ثم تستمر في صعودها إلى درجة النظر العقلي عند الرياضيين والفلاسفة، وترقى بعد ذلك إلى مرتبة التجارب التنسكية.
وقد وضح القرآن الكريم طرقاً متنوعة للمعرفة والتعقل والتدبر للكشف عن الحقيقة، ليتخذ كل إنسان الطريق الذي يلائم مستوى عقله وإدراكه ومنها طريق النظر إلى السموات والأرض وما فيهما ولهذا الطريق مرحلتان: أرضية محضة وأرضية سماوية.
المرحلة الأولى: أخفض المراحل وأشدها بدائية، وألصقها بالأرض، وهي تخاطب العامة بما بين أيديهم من مرئيات، ثم توجههم إلى استنباط ما هو بعيد عنهم لعلهم يهتدون، قال تعالى : {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت• وإلى السماء كيف رفعت• وإلى الجبال كيف نصبت• وإلى الأرض كيف سطحت}(سورة الغاشية 17-20 ).
المرحلة الثانية: وتتصل بتطور الإنسانية، ورقي العقلية، وتوجه النظر إلى السماء، ثم النظر في السماء قال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج• والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج• تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}(سورة ق 6-8).
والطريق الثاني: طريق الأسباب والمسببات، لأن هناك فريقاً من البشرية لا يقنعه غير أفعال الأسباب في مسبباتها، ولا يرضيه سوى التأمل في نشوء المسببات عن أسبابها قال تعالى: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون• ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}(النحل 10-11) .
والطريق الثالث: طريق المعقولات المحضة، قال تعالى:{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(سورة الذاريات – 21) طريق الشعور النفسي كوسيلة من وسائل المعرفة، كذلك يمكن الظفر فيها بطريق المعقولات الخالصة التي لا يدركها إلا علية الصفوة من المفكرين الذين يعتمدون على العقل، النقي لينفذوا إلى ما وراء حجب المرئيات.
والطريق الرابع: طريق البديهيات العقلية ويعد هذا الطريق في عالم الفكر المنطقي أسمى الطرق وأقربها إلى القمة، وأدناها الى أوج الإمكان الإنساني وهو منبثق من داخل النفس وهو الفكر المحتوي، قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(سورة الذاريات 21).
ومن ذلك يتضح أن طرق المعرفة في الإسلام تلائم الإنسانية كلها حسب درجاتها في الكمال الفكري، وأن القرآن الكريم خاطب الناس على قدر ثقافتهم وفكرهم وعقولهم ليصل بهم إلى ذروة ما قدر لكل منهم من الفهم والوعي والإدراك ، وكل ميسر لما خلق له ، فسبحان الله خالق الإنسان بأطواره المتدرجة وواهبه العقل الفصل في المعرفة ومقسم الأرزاق والدرجات ومفضل بعضنا على بعض في الدنيا والآخرة ، آيات وحكم لخلقه تبارك الخالق سبحانه . والله الموفق .

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

التدبر والتفكر والتذكر والتعقل عبادات مأجورة

بسم الله الرحمن الارحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه ...