يتفق التربويون على أن المعلم العنصر الرئيس في العملية التعليمية وقائدها الذي يحدث الفرق في مستوى جودتها وتأثيرها وأنه العنصر الأساسي الذي يؤثر في مكتسبات الطلاب من خلال شخصيته واستراتيجياته وأساليبه في التدريس ، وقد اهتمت بتأهيله وإعداده جميع الأنظمة التعليمية في العالم أيمانًا منها بأهمية دوره الرئيس في تجويد مخرجات العملية التعليمية كما خصصت له اليونسكو يوم 5 أكتوبر من كل عام يومًا عالميًا للاحتفاء به وبدوره المحوري في تقدم المجتمعات وتطورها ، وجعلت شعارها ليوم المعلم لهذا العام 2019 ” المعلمون الشباب ، مستقبل المهنة ”
فالمعلمون في وطني العزيز وفي طريق تحقيق رؤيته الطموحة 2030 يؤمل فيهم امتلاك الكفايات اللازمة لأداء أدوارهم المتطورة ،، فنتيجة للتغير المعرفي الهائل في المعلومات والمعارف والتطور التكنولوجي في جميع مناحي الحياة وتكنولوجيا التعليم ، فقد تطوّر دور المعلم وازدادت مهمته تعقيداً واتساعاً ، فبعد أن كان تقليدياً يقتصر على نقل المعرفة إلى عقول التلاميذ ، وحشوها بالمعلومات، ومهمته مقصورة على التعليم فقط وتنفيذ الكتاب المدرسي في المنهج التعليمي ، وحدوده الصف والمدرسة ، أصبح المعلم اليوم مختلفاً فقد تعددت أدواره وأساليبه، وتزايدت أهمية المعلم في ضوء الأدوار الجديدة التي ينبغي أن يقوم بها ، فقد أصبح قائدًا ومرشداً إلى مصادر المعرفة ، ومنسّقاً لعمليات التعليم ، ومقوّماً لنتائج التعلّم ، وموجهاً مراعيًا لقدرات المتعلّم وميوله ، ومكتشفًا للموهبة والإبداع منميًا لها لدى المتعلمين .
ونظراً لأن دور المعلم كان ولازال دوراً متغيّراً مسايراً لمتطلبات التطوّر الذي يصاحب التعليم كمهنة ، فقد تطورت أدوار المعلم بتطور النظريات التربوية وتطور التقنيات والمعلوماتية وقد تناولتها أدبيات التربية التي تفترض منه أن يكون معلّماً ، ومربياً ومرشداً ، وملاحظاً سيكولوجياً ، ورائداً اجتماعياً ، ومنظماً إدارياً ، ومهندساً تقنياً ، وباحثاً علمياً ، ومكتشفًا للمواهب والإبداعات ، وقد أصاب دور المعلم نوع من التوظيف المهني والتقني في عصر التكنولوجيا فائقة التطوّر عصر المعرفة والمعلوماتية والاتصالات الكونية ، فالتعليم لم يعد مقصوراً على آليات التدريس ، إذ تحوّل أكثر فأكثر إلى آليات التعلّم ، وترّكز الجهد الفاعل في حقل التدريس على المتعلّم أكثر من المعلّم.
وعن تأريخ إعداد المعلمين للتعليم العام في المملكة العربية السعودية فقد تناولت مؤلفًا تضمن تدرج تأريخه منذ نشأت مديرية المعارف ووسمته ب ” المعلم السعودي إعداده ، وتدريبه ، وتقويمه ” ط 1415 ومن أبرز ما تضمنه الكتاب تتبع تطور إعداد المعلمين وتدريبهم في الوطن العزيز ، كما تناولت مستقبل المعلمين في وطني والمشاهد المتوقع حدوثها لتطوير كفاياته من خلال مؤلفي الموسوم ب ” مستقبل التعليم في وطني ” ط 1436 ويمكن للمهتمين العودة إلى مضامينها .
ورغم الاجتهادات التي بذلت في سبيل إكساب المعلمين كفايات التدريس اللازمة وتطوير برامج إعداده في الوطن العزيز إلا أن نواتج التعليم والتعلم تشير إلى الحاجة القصوى لإعادة النظر في برامج إعداد المعلمين وفي برامج تدريبهم أثناء الخدمة ، ففي الوقت الذي تبذل فيه جهود مقبولة لتطوير المناهج التعليمية وطرائق التعليم والتعلم وتحسين البيئات التعليمية ورفع كفايتها فإنه لا يقابلها ما تحتاجه المعلمون فعلا من تدريب متخصص للتعامل مع المناهج المطورة وتقنيات التعليم والتعلم المتطورة في البيئات التعليمية المعاصرة مما أحدث فجوة حقيقية في نوعية مخرجات التعليم ، وقد كشفت مجموعة من الاختبارات التحصيلية والاختبارات الوطنية والعالمية واختبارات القدرات تلك الفجوة المقلقة في مستوى مخرجات التعليم والتي يعود السبب في حدوثها إلى ضعف كفاءة المعلمين نتيجة ضعف برامج إعدادهم وضعف برامج تدريبهم أثناء الخدمة وعدم كفايتها لإكساب كفايات التدريس اللازمة ، ففي آواخر التصنيفات لدول العالم في جودة التعليم صنّف تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس جودة التعليم في المملكة العربية السعودية لعام 2015م في المرتبة 54 من بين 140 دولة شملها مؤشر الجودة في العالم ، وفي عام 2016 ووفقًا لمؤشر دافوس نفسه لجودة التعليم كان ترتيب السعودية 72 عالميًا من بين 140 دولة في المؤشر ، وفي عام 2018 ووفقًا لذات المؤشر جاء ترتيب السعودية 84 عالميًا بين 140 دولة ، وهو ما يدل على تراجع جودة التعليم في الوطن العزيز ، ويعتمد مؤشر دافوس على معيار قياس الجودة في مكونات النظام التعليمي الآتية : البنية التحتية – المؤسسات – بيئة الاقتصاد الكلي – التعليم الأساسي و الصحة – التدريب و التعليم الجامعي – الجودة الخاصة بالسلع و الأسواق- كفاءة سوق العمل – سوق المال و تطويره – التكنولوجيا – الابتكار – حجم السوق – تطور الأعمال، كما كشف تقرير مركز قياس لعام 2015م إخفاق أكثر من 228 ألف متقدم لاختبارات كفايات المعلمين من خريجي برامج إعداد المعلمين المتقدمين لوظائف التعليم بنسبة 40% من مجموع المتقدمين مع خفض درجة الاجتياز الدنيا إلى 50% بدلا من 60% ، وقد طالب آنذاك كثيرون من التربويين والمهتمين بضرورة تطبيق رخصة مزاولة مهنة التدريس بما يضمن للمعلمين وبقية العاملين الفنيين مستوى عاليًا من جودة الأداء وقد أقر مجلس الوزراء مؤخرًا لائحة الوظائف التعليمية وتطبيق رخصة المعلمين في الوطن العزيز ويتوقع أن يسهم ذلك رفع مستويات الأداء لدى المعلمين و حفزهم على النمو المهني خلال الخدمة بإذن الله تعالى .
وقد برزت في الآونة الأخيرة لدى بعض الجامعات الوطنية بعض الاهتمامات بمستقبل مهنة التعليم ومستقبل المعلمين وأقيمت مجموعة من المؤتمرات التي تناولت مشكلات إعداده وأبرز النظريات والمناهج والأساليب العالمية لتأهيل المعلمين وتدريبهم أثناء الخدمة وكان من بين تلك الفعاليات المؤتمر الذي نفذته كلية التربية بجامعة الملك سعود في شهر ذي الحجة من عام 1436هـ الموافق شهر اكتوبر 2015م بعنوان: ” معلم المستقبل، إعداده ، وتطويره ” وكان من أبرز أهداف المؤتمر: عرض التجارب الدولية في إعداد المعلم ، واستشراف مستقبل برامج إعداد المعلمين في المملكة، وعرض التجارب الدولية في برامج التطوير المهني للمعلمين أثناء الخدمة، واستشراف مستقبل برامج التطوير المهني للمعلمين في المملكة، وتسليط الضوء على الرخصة المهنية ودورها في تطوير المعلمين أثناء الخدمة، وقد قدم مجموعة من الخبراء الدوليين والوطنيين في المؤتمر مجموعة من المقترحات التي يمكن عند الأخذ بها تلافي بعض نواحي القصور في برامج إعداد المعلمين وتدريبهم أثناء الخدمة ، كما تم عقد مؤتمر مماثل في جامعة الباحة بتنظيم كلية التربية وذلك في الفترة من 4 – 6 رجب 1440 هـ ، ودعا المشاركون في تلك المؤتمرات إلى أهمية تجويد برامج إعداد المعلمين وتجويد برامج تدريبهم أثناء الخدمة إلا أن التجارب السابقة تؤكد ضعف الاستفادة من نواتج المؤتمرات والندوات بوجه عام وبعدها عن مراكز التخطيط والتطوير ذات الصلة .
ويتفق كثيرون من الباحثين في مجال إعداد المعلمين وتدريبهم على أن مستقبل المعلمين يواجه مجموعة من التحديات المقلقة والمتجددة مثل تحديات المعرفة والتكنولوجيا والمعلوماتية والعولمة والديموقراطية وتطور المناهج التعليمية وتطور بيئات التعليم والتعلم ومعايير الجودة وربط الأجور بمستوى الأداء ومشاريع الترخيص للمهنة والضغوط الاجتماعية وتنامي الطلب على مخرجات تعليمية منافسة دوليًا ، فضلا عن تحديات تتعلق بالأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية المؤثرة بشكل مباشر في مهنة التعليم ، ولعل أكثرها مقلقًا لمعلمي المستقبل تزايد انتشار تطبيقات التعليم والتعلم الافتراضي وشيوع استخدام وسائل التواصل الإليكترونية وتأثيرات وسائل الإعلام الجديد على المتعلمين ما يتطلب منهم النماء المستمر للمواكبة والتعايش والقدرة على التفاعل مع المستجدات الإليكترونية وأدوات ووسائط التعليم والتعلم المتطورة .
ومدارس المستقبل بمواصفاتها المتطورة تعد تحديًا حقيقيًا يواجه معلم المستقبل فالبيئة التعليمية في مدرسة المستقبل التي تتصف كما أسلفت بأنها بيئة تفاعلية مفتوحة وتكنولوجية تحتوي على تجهيزات بيئية تفاعلية ، وفصول افتراضية ، ومداخل متنوعة لشبكات محلية وعالمية ، وبريد إلكتروني ، ومجموعات بريدية ، ومزودة بوسائل الاتصال عن بعد Telnet ، والاتصال المباشر On Line ، وتبادل الفيديو تحت الطلب ( VOD ) وتلفزيونات متفاعلة ، ومواد تعليمية فورية عالمية، وتنفيذ المؤتمرات والاجتماعات عن بعد ، وإجراء المناقشات والتفاعلات السريعة الأخرى مع جميع الأطراف التي يمكن أن تشارك في العملية التعليمية ، وإدارة قواعد البيانات التعليمية عن بعد بمراكز التعلم الافتراضية ، والمكتبات الإلكترونية والشبكات التعليمية لتحقيق التعلم النشط من خلال المتعة القائمة على الإبداع العلمي والفاعلية تتطلب معلمًا مبدعًا ، والمناهج الحرة المفتوحة الملائمة لخصائص الطلاب في مدرسة المستقبل التي تحقق التكامل بين الجوانب النظرية والجوانب التطبيقية وبين الأنشطة الصفية والأنشطة غير الصفية، المرتبطة بالبيئة المحلية واحتياجات المجتمع، المراعية للفروق الفردية بين المتعلمين، والمؤكدة على مفاهيم العمل والعمل التعاوني ، والتي يفترض أن تقود إلى إكساب المتعلمين مهارات التفكير والإبداع وتنمية المواهب ، تتطلب معلمًا بمواصفات خاصة ولعل من أبرزها أن يكون قادرًا على استخدام التقنيات الحديثة في عملية التعليم والتعلم ، و أن يتمتـــع بقــدرات عقليــــة فـائــــقة ، وباتجاهــات إيجابيـة نـــحو طلابــــه ، وأن يتقن عمليات تصميم التعليم والتعلم ، وأن يكون مدربًا على تصميم ونشر الصفحات التعليمية على الإنترنت، وأن يكون قادرًا على إدارة العملية التعليمية الفاعلة والمتطورة الواقعية والافتراضية .
ويعاني المعلمون اليوم في الوطن العزيز من مجموعة مشكلات تتعلق بطبيعة الإعداد التربوي وقصور برامج التدريب أثناء الخدمة وبضغوط العمل في ظل مواصفات المدارس والمناهج المعاصرة ومشكلات تتعلق بالحقوق وبآليات وزارة التعليم في التعامل مع احتياجات المعلمين وتوفير البيئات الوظيفية الآمنة والمحفزة على العمل ، وآلياتها في التكليف والنقل والتحفيز والوضع الاجتماعي للمعلمين مقارنة ببعض الوظائف الأخرى .. وغيرها من المشكلات التي أثرت على مستوى الأداء وعلى المخرجات التعليمية ، وتواجه وزارة التعليم تحديًا حقيقيًا لإعادة الثقة إلى المعلمين بتحسين أوضاعهم الوظيفية والاجتماعية وتلافي المشكلات التي يواجهونها بسبب مواصفات البيئات التعليمية وزيادة أعداد الطلاب في الفصول وعدم القدرة على تنفيذ المناهج التعليمية المعاصرة بدون توافر متطلباتها من المواد والوسائط التعليمية اللازمة وعدم التدريب الكافي على تنفيذها ، ولعل وزارة التعليم تتمكن من خلال تنفيذها لبرنامج التحول الوطني وبرامج تحقيق الرؤية الوطنية 2030 من تلافي تلك المشكلات المؤثرة في جودة التعليم و جودة مخرجاته.
وختامًا فإن على وزارة التعليم القائمة والمستقبلة أن تعمل جديًا على الاستفادة من تجارب الدول المتفوقة في التصنيف العالمي لجودة التعليم والتوسع في تنفيذ مشروعات التطوير التربوي ذات الصلة بعناصر المنهج المتنوعة بشكل متوازن لا يخل بتكاملها لتحقيق الغايات المأمولة، وعلى الدولة الاستمرار في دعم تطوير التعليم ، والعناية بتجويد برامج إعداد المعلمين والعناية بنمو المعلمين المهني أثناء الخدمة ورفع كفاياتهم بما يتلاءم مع التطورات في البيئة التعليمية وعناصرها المتنوعة وبما يساهم في تحقيق رؤية الوطن 2030 وما ينشأ بعدها من رؤى وطنية ، ونسأل الله أن يوفق القيادات العليا والقائمين على التعليم إلى سلوك طريق التطوير المأمول للتعليم بكل أنواعه لتحقيق الآمال والغايات السامية للحكومة والمواطنين ، والله الموفق والمستعان